بالرغم من أنه كان أول من درس هندسة الفضاء في مصر، وأصبح من أهم علماء العالم في مجال الصواريخ والطائرات، وبالرغم من أنه قدم من عمره عشر سنوات قضاها لإعداد التصور الكامل لأول قمر صناعي مصري متكامل(Egypt1)، والذي تم إجهاضه بفعل فاعل في اللحظات الأخيرة، إلا أن ذلك لم يصرفه أبدا عن حب وطنه، وعن محاولة ربط العلم والتنمية بالجذور الإسلامية، وكان من رواد ومؤسسي علم الفقه الحضاري. هل أشارك في مجال من مجالات التنمية: صناعة - زراعة - دعوة تنموية؟ هل هناك عمل تنموي يمكنني اكتساب خبراته في وقت قصير حتى أجعل استهلاكي أقل بكثير من إنتاجي؟ هل أشجع إنتاج مجتمعي حتى لو كان أقل جودة من الإنتاج الأجنبي، أم أندفع دائماً وراء المنتجات الأجنبية؟ هل أشجع المنتجات التي لا تلوث البيئة والصحة، أم لا أعبأ بفساد البر والبحر؟. كانت هذه مجموعة من الأسئلة التي جاءت ضمن (ورد المحاسبة التنموية)، وهو مجموعة أسئلة لمحاسبة النفس، مكملة للجانب التعبدي والأخلاقي الذي يراجع فيه الفرد كل ليلة أعماله من وجهة نظر الأخلاق الفردية، أما "المحاسبة التنموية" فيراجع كل مرحلة يشعر فيها الإنسان باختلال دوره في الحياة، وهي الفكرة التي عاش من أجلها الدكتور "سيد دسوقي حسن" ولا زال يناضل في سبيل تحقيقها. قد لا يعرفه الكثيرون لأنه لم ينل حظه من الشهرة مثل غيره، إلا أن كل من يعمل في مجال الفضاء أو حتى مجال التنمية يعرف اسمه جيدًا، ولد الدكتور "سيد دسوقي" في العام 1937، وحصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة القاهرة، ثم درجة الدكتوراه من جامعة ستانفورد الأمريكية، حيث أصبح هناك أحد أهم العلماء في ميدان هندسة التحكم والتوجيه للطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية، ليعمل بعد ذلك مستشارًا لوزير الدفاع الجزائري، ثم مستشارًا لوزير الإنتاج الحربي المصري إبان حرب عام 1973، بذل جهودًا كبيرة لإعادة افتتاح قسم هندسة الطيران بجامعة القاهرة بعد أن تم إغلاقه وتسريح الطلبة منه لمدة 12 عامًا، حيث ترأس القسم لمدة 6 سنوات، رفض الكثير من الإغراءات للهجرة إلى الولاياتالمتحدة والعمل في أكبر مراكزها البحثية، حيث اعتبر أن رسالته في الحياة هي نقل علمه وخبراته إلى الأجيال الجديدة من الشباب، ولذلك فقد أشرف على ما يزيد عن 150 رسالة ماجستير ودكتوراه في مجال هندسة التحكم للطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية، صحيح أنه كان يحلم بأن يرى أبناءه من الباحثين يديرون عجلة التقدم والنهضة العلمية في مصر، ولكن يكفيه فخرًا بأن الغالبية العظمى منهم يشغلون الآن أكبر المراكز المرموقة في وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، وشركة بوينج للطيران. قد يبدو مستغربًا أنه بالرغم من كل ما وصل إليه الدكتور "سيد" من مكانة علمية مرموقة، إلا أن ذلك لم يمنعه أن يصبح صاحب رسالة في الحياة، هدفها الأول ربط الدين بواقع الحياة من خلال "علم الفقه الحضاري"، يمتاز بأنه لا يكتب في موضوعه من الناحية النظرية فقط، بل يقدم نماذج تنموية واقعية وخطط للنهضة تناسب الواقع العربي والإسلامي، ويرتكز في فلسفته على ثلاثة أنماط للتنمية، النمط الأول هو "تنمية البقاء"، ويهدف للاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية من أجل تحقيق اكتفاء ذاتي من متطلبات الحياة الأساسية، كما أن طبيعة الأعمال والتعليم الذي يصاحب هذا النمط يجب أن يكون مختلفًا، ففي منطقة زراعية يتوفر فيها الماء والأرض الصالحة، يجب أن ترسم خريطة تنمية البقاء من خلال الأعمال الزراعية أو التربية الحيوانية، وحينئذ نصمم مناهج للتعليم ذات بعد بيئي، فما أن يبلغ الطالب السادسة عشرة حتى يكون قد امتهن مهنة مناسبة، مع كامل حقه في استكمال دراسته في نفس المجال إن كان قادرًا على ذلك، أما النمط الثاني فهو "تنمية النماء"، وفيه يتم الاهتمام ببناء وتصنيع مقومات الحضارة المعاصرة، وما يستتبع ذلك من نظام تعليمي وتدريبي وبحثي، ورغم أن هذا النمط من التنمية إذا أحسنا إعداده قادر على استيعاب كل أفراد الأمة في العمل، إلا أننا حاليًا نتوجه إلى استيراد أغلب منتجاتنا دون أن نصنعها، فتضيع علينا فرصة العمر في عملية التعليم والتدريب، وأخيرًا فإن النمط الثالث هو "تنمية السبق"، فينبغي أن نوجد لأنفسنا بعض الميادين التي نستطيع أن ننجز فيها شيئًا، ونحن بالتأكيد نستطيع أن نسبق في ميادين ثقافية وسياحية وتكنولوجية، لكن القضية هي أن نحدد ما نستطيع أن ندخل فيه سباقًا، ثم نعدو فيه تعليمًا وتدريبًا وإنتاجًا. المدهش أنه بالإضافة إلى كل ما سبق فقد استطاع الدكتور "سيد" أن يقطع شوطًا كبيرًا في تفسير القرآن الكريم، وبدلاً من أن ينهج نهج التفسير البياني أو الوعظي، فقد آثر أن ينهج نهجاً جديداً أسماه "التفسير الحضاري"، فاتحاً بذلك باباً جديداً ومبتكراً في تاريخ تفسير القرآن الكريم، فهو يقدم رؤيته واجتهاده انطلاقاً من التمييز بين ما يرويه القرآن من الأمثلة والقصص، فلم يتوقف كثيراً عند ملابسات الأحداث والقصص القرآني من المنظور التاريخي، وفضل أن يرسل نظره إلى آفاق المعاني والدلالات التي تتضمنها تلك الأحداث والقصص. وأخيرًا.. فقد كان الدكتور "سيد دسوقي" حريصًا على أن يعيش لغاية نبيلة، وأن يترك بصمته في الحياة، وهو يؤمن بأن قيام الحضارة يحتاج إلى معادلة يتفاعل فيها الإنسان صاحب الرسالة، مع ترابه الوطني، في ظل الدين الذي يدخل في المعادلة كعامل مساعد، لأن العقائد والقيم النابعة من الدين ثابتة لا تتغير بالتفاعل، وإنما يمكن أن تتطور النظم والشرائع النابعة من هذه القيم لتناسب تغير الظروف مع الزمن. والآن.. هل فكرت في الإجابة على أسئلة "ورد المحاسبة التنموية" التي أهداها لنا هذا الرجل؟ وهل لديك من الإرادة ما يمكنك من أن تحمل رسالتك وتمضي بها في الحياة، وتترك بصمتك التي تقابل بها الله تعالى وضميرك مرتاح أنك قد ساهمت في نهضة أمتك؟..أتمنى ذلك. [email protected]