أثار مشروع تقدم به أمين عام جامعة الدول العربية السيد عمرو موسي لمؤتمر القمة العربية في سرت جدلًا بين القادة, وانتهى بهم الأمر إلى تأجيل مناقشته, بالإضافة إلى قضايا أخرى، لقمة استثنائية اتفقوا على عقدها في سبتمبر المقبل, ينصُّ مشروع الأمين العام على تأسيس رابطة تضمُّ الجامعة العربية مع دول الجوار العربي, وهي عبارة عن إطار مؤسسي يضمُّ جامعة الدول العربية من ناحية ودول الجوار غير العربية -باستثناء إسرائيل- من ناحية أخرى. للعالم العربي خبراتٌ سابقة في الحوار ضمن ترتيبات مشابهة, فبعد حرب أكتوبر دخل العالم العربي, ممثلًا بالجامعة العربية, في حوار مع الجامعة الأوروبية, فيما عرف وقتها بالحوار العربي-الأوروبي- حوار العرب مع أوروبا كان انعكاسًا لتزايد مكانة العالم العربي نتيجة للأداء العسكري المتميز للجيشين المصري والسوري, وللحظر النفطي الفعال الذي فرضته الدول العربية المصدرة للنفط على الدول المؤيدة لإسرائيل وانعكاس أيضًا لنجاح الدول العربية في الوصول بالتنسيق العسكري والدبلوماسي والاقتصادي فيما بينهم إلى مستوًى غير مسبوق دار الحوار العربي-الأوروبي بين منظمتين إقليميتين فكان متكافئًا من الناحية المؤسسية رغم الفارق في طبيعة المنظمتين، الأهم من ذلك هو أن العرب دخلوا في الحوار مع أوروبا في مرحلة اتسم العالم العربي خلالها بالتماسك, وتمتعت دوله الرئيسية ومنظمته الجامعة بدرجة عالمية من الثقة بالنفس, الأمر الذي وفّر أسبابًا إضافية للتكافؤ بين طرفي الحوار. الحوار المقترح بين العرب وجيرانهم سيدور بين منظمة إقليمية ودول منفردة مستقلة ذات سيادة، ورغم ما قد يظنه البعض من أن ميزان القوة في مثل هذه العلاقة يميل لصالح المنظمة الإقليمية التي تضمُّ عددًا من الدول, فإن الأمر في حقيقته غير ذلك, فالدول ذات السيادة هي في التحليل الأخير وحدة نهائية لصنع القرار ليس عليها سوى اتباع ما تراه ملائمًا لمصلحتها الوطنية, أما المنظمة الإقليمية فهي تجمع للدول لكل منها مصلحته الوطنية وطريقته في تحقيقها, الأمر الذي يعقد من عملية صنع السياسات والقرار المشترك, ويحولها في جانب كبير منها إلى عملية تفاوض بين أطراف المنظمة الإقليمية, وليس بين المنظمة الإقليمية والطرف الشريك في الحوار, وفي أغلب الأحوال عادةً ما تنتهي المنظمات الإقليمية لاتخاذ قرارات تفتقد للانسجام والوضوح بسبب ضرورات التسوية والمساومات بين اتجاهات الدول المختلفة أعضاء المنظمة, وغالبًا ما تكون القرارات الجماعية التي يتمُّ اتخاذُها باسم المنظمة التي تضم عددًا من الدول المستقلَّة عبارة عن الحدّ المشترك الأدنى بين الدول الأعضاء, والذي عادةً ما يكون أقل من كافٍ للتعامل مع التحديات المطروحة. ويزيد الأمر تعقيدًا عند الانتقال إلى مرحلة تنفيذ القرارات والسياسات المشتركة, والتي عادةً ما تعترضها مشكلات التكلفة الواجب تحمُّلُها للتنسيق بين سياسات الدول الأعضاء, والتأكد من التزام كافة الدول الأعضاء بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه بحسن نية, وباختصار فإن للعمل الجماعي مشكلاته التي لا يجب التهوين من شأنها, وربما كانت هذه المشكلات وراء العبارة الشهيرة التي أطلقها القائد الفرنسي نابليون بونابرت عندما كانت بلاده تحارب حلفًا أوروبيًّا كبيرًا "من الأفضل أن أحارب ضد حلف على أن أحارب كجزء من حلف". الحديث عن صعوبات العمل المشترك بين الدول لا يعني استحالته, ففي العامل نماذج كثيرة لدول استطاعت تحقيق درجات متقدمة من التعاون والتنسيق والتكامل فيما بينها, لكن في هذا الحديث تذكرة بصعوبات العمل المشترك عادة ما تغيب عن الأذهان, فالعمل المشترك بين الدول والكيانات الدولية ليس نزهة تنتقل فيها الدول من حالة الانقسام والصراع آلة حالة الوحدة والتعاون, ولكنه حالة سياسية يستلزم نجاحها توافر شروط مسبقة غير متوافرة دائمًا, وللأسف فإن درجة توافرها في العالم العربي أقلّ بكثير من درجة توافرها في أقاليم أخرى رغم الطلب المتزايد عليها من جانب الشعوب العربية. أعود لتجمع الجوار العربي المقترح من الأمين العام لجامعة الدول العربية لأقول أنه بالإضافة إلى الصعوبات العامة التي تعترض طريق العمل المشترك بين الدول, فإن الحالة العربية تطرح مشكلات إضافية, فالعالم العربي المدعو للدخول في حوار مع جيرانه يعاني في هذه المرحلة من انقسام شديد بين أعضائه الموزعين بين كتلتين للاعتدال والتشدد, الأمر الذي يضعف من قدرة العرب في هذه المرحلة على الدخول في حوارات جماعية مع دول الجوار أو غيرها, إذ ليس للدول العربية في هذه المرحلة لسان واحد يتحدث باسمها, وليس بينها اتفاق على تعريف المصلحة المشتركة وسبل تحقيقها. الأكثر من هذا هو أن انقسامات العرب وضعف تماسكهم في هذه المرحلة سهَّل اختراق الإقليم العربي ودوله من جانب دول الجوار, خاصة من جانب إيران التي استطاعت أن تعبِّئَ وتجند المؤيدين لها, سواء تمثَّل هؤلاء في طوائف وجماعات مذهبية تربطها بإيران صلة المذهب والعقيدة والأيديولوجيا, أو تمثلوا في فئات من المواطنين المفتونين بالسياسات والخطاب الإيراني, وقد يكون من عواقب المشروع المقترح من جانب الأمين العام لجامعة الدول العربية تسهيل مزيد من الاختراق الإيراني للمنطقة العربية. غير أن الأمر لا يقف عن حد الاختراق الإيراني للعالم العربي, وإنما يمتدُّ أيضًا إلى طبيعة الانقسامات والصراعات العربية في هذه المرحلة, فقد أصبحت إيران منذ عدة سنوات جزءًا لا يتجزَّأ من الانقسامات العربية, حتى أن إيران هي بكل المقاييس القيادة الفعلية لمعسكر التشدد العربي, وبالتالي فإن انفتاح جامعة الدول العربية على إيران يمكن له أن يتحول بسهولة إلى تعديل في التوازن الهش القائم بين المعتدلين والمتشددين العرب لصالح الفريق الأخير على حساب الأول، الأمر الذي يزيد أمور العالم العربي تعقيدًا فوق تعقيد. العالم العربي يعاني -كما أشرت قبل قليل- من اختراق القوى الإقليمية له ومن ضعف مناعته إزاء هذه الاختراقات العالم العربي هو جزء لا يتجزأ- وإن كان مميزا- من إقليم أوسع هو إقليم الشرق الأوسط ومنذ نشأة النظام الإقليمي العربي تميزت علاقات النظام العربي بدول الجوار الشرق أوسطي بمزيج من التنافس والتعاون, في الوقت الذي لم تكفّ فيه دول الجوار في أي مرحلة عن محاولة تعزيز نفوذِها داخل الإقليم العربي باعتباره القلب والكتلة الأكثر هشاشةً في الشرق الأوسط؛ فدول الجوار التي يدعو الأمين العام لجامعة الدول العربية للانفتاح عليها هي كيانات قومية متبلورة تحكمها نظم حكم قوية ومركزية تحت تصرفات موارد هائلة, على عكس العالم العربي المكوّن من دول متعددة أقل في إمكانياتها من دول الجوار, وتعاني من مشكلات تماسك الدولة, بل وفشلها وانهيارها في عدد من الحالات. وطوال تاريخه نجح النظام الإقليمي العربي في الحفاظ على درجة مناسبة من التماسك في إدارة علاقاته مع دول الجوار, غير أن درجة التماسك هذه لم تكن في أي مرحلة أقل مما عليه الآن, وهو ما انعكس في الدرجة العالية من اختراق العالم العربي من جانب دول الجوار. انفتاح العالم العربي على دول الجوار غير العربية في هذه المرحلة يمكن له أن يمثل إسباغًا للشرعية على المستوى الراهن من الاختراق الخارجي للنظام العربي, كما يمكن له أن ينتج إطارًا مؤسسيًّا يديم هذا الاختراق وربما يعزِّزه, فانفتاح العالم العربي في هذه المرحلة على جيرانه بشكل جماعي ومؤسسي يهدّد بتغير العلاقة المستقرة بين القلب العربي والمحيط الشرق أوسطي بشكل نهائي, لصالح التذويب الكامل للكيان العربي الجماعي في المحيط الشرق أوسطي, وهو اختيار علينا أن نتحسب كثيرًا لتبعاته. الأرجح أن الأمين العام لجامعة الدول العربية يدرك التعقيدات والألغام الكامنة في اقتراحه, خاصةً ما يتعلق منها بالانفتاح العربي على إيران, الأمر الذي ينعكس فيما اقترحه من تنفيذ تدريجي على مراحل لهذا المشروع, بحيث تبدأ المرحلة الأولي بالانفتاح على دول الجوار الأقل إثارةً للجدل مثل تركيا وتشاد؛ فتركيا في هذه المرحلة تمارس سياسات بنَّاءة في المنطقة, ويلقى دورُها فيها ترحيبًا من جانب العرب على اختلاف معسكراتهم ومشاربهم, أما تشاد, فهي رغم المشكلات التي تنشب بينها وبين جارتيها السودان وليبيا من وقتٍ لآخر, فإنها بالإجمال لا تمثل تهديدًا للإقليم العربي, بسبب مواردها المحدودة من ناحية, وبسبب محدودية طموحاتها الإقليمية من ناحية أخرى. غير أن البدء بتركيا وتشاد لا يقلِّل من مخاطر المشروع الذي تقدم به الأمين العام لجامعة الدول العربية لمؤتمر القمة العربي, فإقرار المبدأ والشروع في إنشاء الإطار المؤسسي اللازم لتنفيذه سيرتب واقعًا جديدًا قد يصعب التراجع عنه, وهو في كل الأحوال يفتح بابًا ستظل دول الجوار غير المرغوب فيها تطرقه, وربما تدفعه بلين مرة وعنف مرة أخرى, حتى ينفتح أمامها في النهاية, وعندما يتحول حوار العرب مع دول الجوار إلى استتباع للعالم العربي من جانب بعض هذه الدول, وهو المصير الذي يجب تجنبه في كل الأحوال. المصدر: الإسلام اليوم