نيل مصر هو أغلى ما فيها وأبقى ما فيها ، هو روحها ودمها وتاريخها الممتد في أعماق السنين ، وكل ما يتصل بالنيل يستمد قيمته وثراؤه من انتسابه إلى النيل حتى لو كانت شقة صغيرة ، يتضاعف سعرها عشرين ضعفا عن مثيلاتها في أي مكان آخر ، لأنها "على النيل" ، فكيف إذا كانت جزيرة في قلب النيل ، وفي أرقى مناطق النيل السياحية ، في أسوان ، وهناك حيث الطبيعة الخلابة والفطرة والجمال كله ، تقبع جزيرة "آمون" والتي يعتبرها خبراء السياحة والإسكان درة جزر النيل ، جزيرة آمون تمتد عبر مساحة تصل إلى مائتين وثمانين فدان ، وهو ما يعني بحساب المتر المربع ، مليون متر مربع أو أكثر قليلا ، هذه الجزيرة التي ترابها دهب وشجرها مرمر وهواؤها من ريح الجنة ، اشتراها وزير الإسكان أحمد المغربي واصطفاها لنفسه قبل قرابة عام ونصف بثمانين مليون جنيه ، وبالحساب البسيط يعني أنه اشترى المتر فيها بثمانين جنيها ، والمبتدئون مثلي في فهم سوق العقار والأراضي يعرفون بالبديهة أنه لو كان يشتري خرابة في صحراء القاهرة فإن المتر فيها سيكون بأكثر من ثمانين جنيها ، فكيف اشترى وزير الإسكان أجمل جزر مصر وأغلاها بهذا السعر الفضائحي ، المعنى والإجابة في "بطن" الذين وقعوا معه العقود ، وخاصة السيد اللواء رئيس شركة مصر أسوان التي تمتلك قرابة ربع الأرض ومعها باقي الجهات الحكومية ، أراضي جزيرة آمون كان أقل سعر عرض فيها من قبل مستثمر ليبي هو عشرة آلاف جنيه للمتر ، وهو الآن أكثر من ذلك بكثير ، ، فكيف "أباح" لنفسه وزير إسكان مصر أن يشتريها من خلال شركته "بالم هيلز" بتراب الفلوس ، وكيف أباح لنفسه مسؤول رسمي أن يوقع عقدا إجراميا بهذه البساطة ، مهما كانت الألاعيب المعتادة عن المناقصة والمظاريف والمزادات ، العجيب أن القصة لم تكن معروفة أساسا بهذه التفاصيل ، وإنما كان هناك سؤال في البرلمان عن أسباب بيع جزيرة آمون للاستثمار مع أنها تعد محمية طبيعية ، ولكن النقاش والتفاصيل والأوراق فاجأت الجميع بجريمة أخرى أشد خطورة ، وحتى الآن رئيس شركة مصر أسوان يرفض الاستجابة لطلب لجنة السياحة في البرلمان بالحضور وتقديم مستنداته ومبرراته ، لعل الرجل ينتظر "الغوث" من بعض الكبار ، أو تدخل "أهل الخير" لتسوية الأمور بين الوزير وخصومه في لجنة السياحة ، ولكني أتصور أن انفجار المسألة بهذا الشكل يجعل من المستحيل لملمتها ، حتى وإن كانت الخصومات الشخصية وصراع الديناصورات هو السبب في تفجير ملف القضية وكشفها ، ولا أتصور أن يكون كل مطالب لجنة السياحة في البرلمان الآن محصورة في فسخ العقد المخزي وإعادة جزيرة آمون إلى ملكية الدولة ، بل إن المنطق أن يحال كل الأطراف التي شاركت في هذه العملية الخطيرة إلى التحقيق وإلى المحاكمة ، كبيرهم وصغيرهم على السواء ، لأن هذا الذي حدث يرقى إلى مستوى سرقة المال العام ونهب أموال الدولة ، ولا أفهم لماذا تمتنع لجنة السياحة عن استدعاء أحمد المغربي وزير الإسكان نفسه ، لسؤاله عن مبررات ما فعلته شركته في هذا الملف ، إلا أن تكون الأمور محكومة بسقف في المفاوضة والمقايضة بين الأعضاء والوزير ، تراعيني قيراط أراعيك قيراطين ، وكل طرف يضع الآخر تحت نابه ، الناس في بلادي تشم رائحة الفساد في هذا العصر الغريب وتتنفسه وتتندر على مظاهره ، وتتألم من الضياع والنزف المتتالي لثروة مصر وتضخم كروش "شرذمة" صغيرة بينما يزداد ملايين المصريين فقرا وبؤسا ، ولكن الناس يزداد ذهولها كلما تسرب إليهم "بعض" التفاصيل ، وبعض وقائع نهب المال العام ، وبعض الفضائح ، فمتى يأتي اليوم الذي ينكشف فيه الغطاء عن الجميع ويطال سيف العدالة كل من تآمر على نهب أموال المصريين وثروات أجيالها المقبلة . [email protected]