وسط الأحداث المتسارعة لا يمكن لأغلبنا إلا أن يلهثوا وراءها علَّهم يدركون أن القيادة فن وحكمة وقدرة، فما يلهثون خلفه لا يعدون إلا أن يكون نقطة فى صحيفة الأحداث كما يراها القائد القدوة! إن التغنى بأن الخطوب تلهى القائد عن مهمته درب من التغابى عن صفات القائد الذى نتطلع إليه ليقود الأمة، كل الأمة، إلى ما نصبوا إليه بشوق أحياناً وبالفطرة أحياناً وبالأمل أحياناً وبالجهد نادراً! قضية القيادة وفعل السحر الذى يمكنها أن تفعله قضية محورية فى مسيرة جميع الأمم، فلا يمكننا أن نتغافل عن بسمارك بالنسبة لألمانيا، وعن تشرشل بالنسبة لإنجلترا، وعن لولا بالنسبة للبرازيل وعن ستالين بالنسبة لروسيا، وعن قادة آخرين حفروا أسماءهم فى سجل التاريخ. ورغم أن التاريخ لا يكرر إعطاء هؤلاء القادة الفرصة تلو الأخرى، حيث اقتنصوها قنصاً، إلا أنه فى حالتنا يكرر الفرص التى تنفلت من بين أيدينا الواحدة تلو الأخرى لا لسبب سوى أننا أهملنا استخدام ما بأيدينا من قدرات وتناسينا أن الأمل يمكن أن يحرك الجموع، ولكن فى اتجاه صائب. فى حالتنا ونحن نتطاحن لا يجب أن ننسى أن هناك وطنًا يتعرض جيشه لمؤامرة لم نسمع عنها من قبل باختطاف جنوده بأيدى من يحسبون على أنهم أبناؤه. منذ عدة أشهر استشهد عدد من أبنائنا فى سيناء والآن يخطف البعض جنودنا. لقد تجرأوا على أبنائنا ولم يتبقَ إلا أن يتجرأ العدو علينا. إنها لمؤامرة وأى مؤامرة. وبدلاً من أن تخرج المظاهرات لتحث الرئيس على الحزم فى التعامل مع الأمر نجدها تخرج لمناوئة الرئيس فى عمله! ولم يكتفِ الإعلام بدعم تلك التظاهرات، بل خرج علينا برواية غير مسبوقة مفادها طلب الرئيس من الحكومة أن تحرص على حماية أرواح الخاطفين، وهو أمر عجيب، فبدلاً من الحزم فى وقته نجد اللين فى غير وقته. إن الترويج لخبر مدسوس مثل هذا يقوض جهود الأمن فى السيطرة على حدود الدولة. والعجيب فى الأمر أننا لم نسمع رغم مرور أكثر من يوم عما حدث عن القبض على الجناة وتقديمهم لمحاكمة عسكرية. إنها لملهاة أن نسمع عن محادثات بين دولة ومجموعة ممن يقوضون إحدى دعائم الدولة وهى جيشها! الفرص التى تتكرر أمام الحكم الحالى لفرض قبضته بالعدل على مجريات الأمور تضيع كلها وسط عداء قلة لا تمثل أية شرعية تبرر لمن يتصدرون الحكم أن تلك الأحداث تشل تفكيرهم، وبالتالى لا يمكنهم التعامل باحتراف مع الأمور! لقد تخاذلت منظومة الحكم مع البلطجية حتى تفشت كظاهرة، وتقاعست عن محاصرة الفساد حتى تفشى ليظلم غير المفسدين، وتراخت فى تطبيق القانون حتى ناوأه من يتم تطبيق القانون عليهم. هذا الأمر يجعلنا نتساءل أين منظومة الحكم إذاً؟ هل الحكم أيام فقط أم أفعال؟ لا يكفى أن نشير إلى منظومة الحكم على أنها نظيفة اليد، لأن الأمر لا يتعلق بأشخاصها بل بأفعالها التى تقع نتائجها على غيرها، ولنتذكر أن اللين فى موضع الشدة ضعف، وأن الشدة فى موقع اللين تهور، فالحكيم هو من يضع الأمور فى نصابها! يقول المتنبى منذ أكثر من ألف عام: وَوَضْعُ النّدى فى موْضعِ السّيفِ بالعلى :: مضرٌّ كوضْع السيفِ فى موضع النّدى وسط تلك الأحداث لا يمكن لسفينة الوطن أن تتوقف لنبنى بحزم وبعزيمة ولا نتقاعس عما يمكننا أن نقدمه فكراً وفعلاً لا قولاً. فى هذا المجال لا يمكننا أن نتغافل عن الاحتياج المجتمعى لهزة قوية تعيده إلى طبيعته القوية المتناغمة السمحة المتطلعة للعلا متمثلة قول شاعرنا عنترة بن شداد أشهر فرسان العرب وأشعرهم، والذى اشتهر بشعر الفروسية وله معلقة مشهورة منذ أربعة عشر قرناً: وما عابَ الزَّمانُ على لوْنى :: ولا حَطّ السوادُ رفيع قَدرى سموتُ إلى العلا وعلوتُ حتى :: رأَيتُ النَّجمَ تَحتى وهو يجرى وقَوماً آخرين سَعَوا وعادُوا :: حيارى ما رأوا أثراً لأثرى فهل نحن من الصنف الأول أم ممن عادوا بخفى حنين؟ قضية التنمية التى يجب أن تنضوى تحتها مختلف قضايانا الأمنية والعلمية والاجتماعية والإنتاجية والثقافية تحتاج إلى رؤية ثاقبة. فى هذا المضمار الذى يمكنه أن يؤثر فى أكثر من عشرين مليوناً من أفراد الشعب هو التعليم الذى بصلاحه ستنتهى قضية الأمية وستدور عجلة الإنتاج وسيسود الفكر المستنير وستنطلق طاقات أبناء الوطن. هذا الذى نتحدث عنه تم أسره بواسطة سلطة دولة الاحتلال إبان احتلالها لمصر منذ أكثر من قرن لتتقيد قدراتنا بما يريدونه منا، لنصبح موظفين وأجراء عند السيد المحتل بشخوصه وبآلياته وبشركاته وبفكرة. تلكم كانت سياسته التى سارت عليها جميع الدول المتخلفة التى لا يُراد لها أن تنمو. لقد وصل بنا الأمر أن نكون الدولة رقم 112 فى سلم التنمية البشرية، وعلينا أن ننفض عن أنفسنا ذل هذا التخلف الذى مرده العديد من الأسباب من ضمنها تجهيل الشعب بحجبه عن العلم وحجب العلم عنه خلف حاجز اللغة، حيث لا يمكن لأى شعب أن ينمو إلا من خلال لغته القومية. والعجيب فى الأمر أن البعض يجادل فى تلك الحقيقة وكأنما يُراد بنا أن نسير على وصفة الطبيب المحتل كى نستمر فى حالة التخلف والتبعية. فهل يمكننا أن نعيد للشعب تماسكه بتوحيد لغة تعليمه كما هو حادث فى جميع الدول المتقدمة، أم هى الكهانة فى العلم؟ البعض يعارض هذا المنطق بحسن نية لأن أموره الحياتية لم تتح له أن يتفحص المشكلة ويتفاعل معها، إلا أن البعض الآخر يلبس مسوح الكهان ويقاتل فى سبيل أن تبقى أمتنا متخلفة وكأنما هو قدرنا أن نظل فى عداد الدول المتخلفة ولا نرقى إلى مكان نستحقه. قضية تعريب التعليم باتت إحدى قضايا المجتمع التى يجب أن تنشط كأحد أجنحة التنمية الحقيقية فى مجتمع لا يمكنه إلا أن ينمو. ونحن فى مسيرة التعريب لا نطالب إلا بالنهج الذى سارت وتسير عليه جميع الدول المتقدمة، فقضية استخدام اللغة القومية ليست محل جدال فى بدايات النهضة وفى استمرارها فى مختلف الحضارات ومختلف الدول المتقدمة. إن وضعنا التنموى متدنٍ جداً ويجب علينا أن نكسر الطوق لننطلق بلساننا وليس بلسان غيرنا حتى لا نشرذم المجتمع على أن يكون ديدننا هو أن تتواصل قطاعات المجتمع مع بعضها أفقياً ورأسياً، حتى لا يُضيِّع المجتمع وقته وجهده فى فهم مادة علمية بغير لغته، فدرس التاريخ يقول إن التنمية لا يمكن أن تتحقق بغير اللغة القومية ولا يوجد استثناء وحيد لذلك، ولهذا لا أرى سبباً للإصرار على ما أرادته إنجلترا عندما احتلت مصر سوى توهم وهواجس يبددها وضعنا التنموى المتدنى والذى يجب أن ننفض عنا غباره. وفى هذا الإطار لا يوجد مجال لمعاداة أية لغة فيجب أن نتعلم لغتنا ومختلف اللغات بطريقة جادة. نحن لسنا بصدد الدعوة للغة العربية، فغاية ما نطمع فيه الآن أن نفهم العلم بلغتنا، وهو أمر أساسى وضرورى فى أية مسيرة تنمية. وفى هذا الصدد فلنتعامل حالياً مع غيرنا باللغة التى يفهمها، وبالتالى يجب أن نتقن مختلف اللغات، شريطة ألا تكون نظرتنا للغتنا نظرة متدنية. ولننظر إلى السياسات اللغوية فى الدول المتقدمة، وكيف أنها شديدة الصرامة فى تعاملها مع لغاتها القومية فهو نهج أساسى فى أية مسيرة تنمية. ولتجنب الخلط المتعمد بين التعليم بالعربية وبين نشر اللغة العربية يجب التأكيد على أننا لسنا فى مسيرة نشر اللغة العربية، بل نحن فى مسيرة محاولة فهم العلم لتنطلق مسيرة التنمية والتى يجب أن تسير فيها الترجمة جنباً إلى جنب مع مسيرة التعليم بلغتنا القومية. ومن المؤكد أن الترجمة العلمية تحتاج إلى متطلبات تقوم بها دول تعدادها 2 مليون، فهل نحن بعدد سكان يفوق 84 مليوناً لا نستطيع أن نقوم بما يقومون به؟ نحن أمام وضع غير صحى من ناحية التنمية يتم فيه العمل كأُجراء لدى الغير، سواء أكان ذلك الغير شركات أجنبية أم شبه أجنبية. ولنتساءل، لنعرف وضعنا التنموى الحقيقى: هل هناك مُنتَج فى أيدينا صناعة مصرية حقيقية؟ نحن نريد أن ننفض عن أنفسنا وعن وطننا هذا الذل، إما أن ننطلق من هذا الوضع لنقنن أوضاع هذا الذل، فهذا جريمة فى حق الوطن. الموقف الآن أسوأ مما يتخيله البعض، فالشركات المحترمة التى يتمنى العديد أن يعمل بها لا تضيف تنمية للوطن ولنا جميعاً، فلنفكر خارج هذا الإطار الذى يكبل كل آليات التنمية. أ.د. محمد يونس الحملاوى أستاذ هندسة الحاسبات، كلية الهندسة، جامعة الأزهر [email protected]