لا أجد ما يوصف به تردد اللجنة التأسيسية للدستور فى قضايا مصيرية مثل التوجه القيمي واللغة القومية وكأننا حيال لعبة شد الحبل بين توجه قيمى ونمر من ورق ولكننا نهابه لدرجة أننا نضيع من بين أيدينا آلية أساسية من آليات التنمية وهى اللغة العربية الواحدة الموحَدَة الموحِدَة لمختلف مناشط المجتمع، وكأننا نتمثل فى هذا السياق لعبة الأمم كما وصفها مايلز كوبلاند فى كتابه عن آليات السيطرة على مقدرات الدول الضعيفة ولكن من خلال ما بذروه من أفراد يملكون صوتاً عالياً ولا يدركون تأثير ما يدافعون عنه بالباطل على أحسن الفروض. إن حسن النوايا حينما يتعرض الأمر للوطن لا مجال له البتة. قضية اللغة القومية وتغلغلها فى مختلف مفاصل الدولة قضية توليها دول الاحتلال أهمية كبرى عند احتلالها للدول المقهورة لأسباب عديدة لا يمكننا أن نغفلها ولا أعتقد أنها غائبة عن أذهان من يديرون الأمور الآن فى مؤسسات الدولة العليا، ولكن الأمور لا يجب أن تقف عند حد المعرفة بل يجب أن تتجاوز ذلك إلى عمل وعمل فاعل مؤثر. القضية بصورتها الحالية تحتاج إلى حسم ووضوح رؤية. فى استعراضنا لما حدث من نقاش فى مجلس الشعب المنحل بخصوص قرض أجنبى لتدريس اللغة الإنجليزية فى بدايات المرحلة الابتدائية يمكننا أن نتنبأ أن دور اللغة القومية ووضعها فى المجتمع عند بعض التيارات مشوش ويحتاج إلى وضوح رؤية وهو أمر مؤسف فى دولة بثقل مصر! لقد أفادتنا شبكات الإنترنت بتسجيلات المناقشات فى هذا الأمر فلنرجع إليها ليتضح لنا كم الحنق على لغتنا العربية وكم عدم المعرفة بأبعاد القضية عند بعض من يديرون الأمور. القضية يمكن تلخيصها بالنسبة لموضوع قرض تدريس الإنجليزية بدءً من الصف الثانى الابتدائى: أنقبل أن نتجرع السم لأنه أتى لنا بشروط ميسرة، أم أن العقل ينافى ذلك؟ القضية تتعلق بأساسيات النهضة التى يحاول البعض تعويمها. لقد بدأ الأمر بإصدار قانون بمنع التمييز فى مصر، نعم فى مصر، على أساس اللغة وكأننا نعيد آليات الاحتلال بأيدينا! القضية ليست عبثية وبدون وضوح رؤية ووقفة مع النفس لن تقوم لنا قائمة، ولنرجع إلى القانون رقم 126 لسنة 2011م الذى لم يكن ليصدره النظام السابق والذى ينص على عدم التمييز بين المصريين نتيجة اللغة وهو ما يؤسس لتقسيم البلاد إلى دويلات الأمر الذى تبذل فيه القوى العالمية جهدها بصورة علنية دون خشية استفاقتنا فالغيبوبة التى يعيش فيها بعض من يتردد اسمه إعلامياً ستضر الوطن كله جميعه إلا فئة قليلة آلت على نفسها أن تترك السفينة لتغرق بتعليم أبنائها بلغات أجنبية وبترتيب آليات الهجرة لهم وهو أمر نراه رؤية العين مع بعض أقطاب النظام السابق بدون أن ينتبه إليه أغلبنا وللأسف! الأمر يحتاج إلى أن تضطلع اللجنة التأسيسية للدستور بدراسة الوضع وحسمه لصالح الوطن. لقد تبدى للجميع تردد اللجنة بخصوص اللغة القومية ودورها فى المادة 24 من الدستور المقترح ومن صياغتيها حتى الآن بما مؤداه بداية التنازل عن أحد أحم مقومات الدولة وهو اللغة القومية. القضية تحتاج إلى حسم فلم يسجل التاريخ تقدم دولة بغير لغتها القومية وها نحن ترتعش أيدينا فى بديهيات التنمية. ولنتذكر مقولة الرئيس جمال عبد الناصر: الخائفون لا يصنعون الحرية، والمترددون لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء. ألا يعلم من يتقاذفون أمور الوطن أنه بدون الاهتمام باللغة القومية كلغة وحيدة فى مرحلة التعليم الابتدائى، وبدون تعريب التعليم بجميع مراحله لا أمل فى أية نهضة حقيقية؛ وأن مدخل أية دولة للتنمية لابد وأن يتضمن التعليم بلغتها القومية؛ وأنه لا يوجد استثناء وحيد بين جميع الدول المتقدمة لهذا الأمر؟ ألا يمكننا أن نفض عن جسد الأمة ما علق بها من آثار الاحتلال وأذنابه ممن تبوأ أمور الدولة سياسياً أو فكرياً لننطلق فى مضمار التنمية؟ الأمر الصادم لما يتم داخل اللجنة التأسيسية للدستور هو أنه لا أحد يجيب عن العديد من التساؤلات حول لغتنا العربية ودورها وكأنها أمر هامشى. ألنا أن نسأل أنفسنا: هل الدول ذات الملايين التى تعد على أصابع اليد الواحدة والتى لها حظ من التنمية تدرس وتنتج العلم بلغتها؟ وهل توجد أمة متقدمة؛ صغر أم كبر عدد أبنائها؛ تنتج علماً وتنشر بحوثها بغير لغتها؟ وهل توجد أمة من الأمم التى نود أن ننقل منها العلم تناقش بأى لغة يتعلم أبناؤها؟ وهل اللغة القومية هى أحد البوابات الأساسية التى يجب أن نمر بها، حتى يكون لنا حظ من التنمية؟ وهل أثبتت العربية قدرتها على استيعاب العلم والإبداع فيه؟ وهل يمكننى أن أشير إلى أن اللغة وعاء فكرى وليست أداة تواصل؟ اللغة العربية بالنسبة لنا شرط لازم ولكنه ليس الشرط الوحيد للنهوض بأمتنا. ولنتذكر أن بعض الدراسات التى أجريت على أوراق الإجابة التى كتبت بالإنجليزية لطلبة إحدى كليات الطب فى مصر أن 10% فقط من الطلاب استطاعوا التعبير عن أنفسهم بشكل جيد، وأن 65% سردوا المعلومات المطلوبة ولكنهم لم يحسنوا التعبير، وأن 25% لم يفهموا المعلومات. فهل هذا ما نبغيه لقادة المستقبل أم أن الأمر مقصود لذاته؟ الوطن يحتاج إلى هزة محسوبة ليفيق البعض من غفوته ولتكن اللغة العربية ضمن هذه الهزة التى بدونها سوف لا نجنى ثمار أية آلية تنمية مهما توهمنا فيها من بادرة إصلاح. ولنتذكر أن الأمانة تقتضى على من لا يجيد إدارة دفة الحكم، أياً ما كان موقعه وفى أى لجنة يقبع، أن يتنحى لصالح الوطن ولصالحه ولصالح أبنائه ليفسح الطريق لمن هو أكفأ منه ولا تستهويه نشوة القيادة، وبهذا فقط سيحسب الأمر له لا عليه! ودعونا نتذكر قول شاعرنا أحمد شوقى: وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي: وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا وَما استَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ: إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُمْ رِكابا أ.د. محمد يونس الحملاوى أستاذ هندسة الحاسبات، كلية الهندسة، جامعة الأزهر [email protected]