مشهد طبيعي ومكرر.. العشرات وأحيانًا المئات من الحافلات وسيارات النقل تصطف في طابور عملاق، تنتظر دورها من أجل الحصول على السولار، المشهد زاد الغضب في النفوس لأن الأزمة لا تزال مستمرة منذ عدة أشهر، أصبحت الاشتباكات بين السائقين أمرًا معتادًا، وتحولت مصر بمرور الوقت إلى جراج كبير. وإذا كانت الكثير من المشكلات في مصر قد بدأت تتحرك في اتجاه الحل ولو بشكل يسير، إلا أن أزمة السولار هي المشكلة الأكبر التي عجزت الحكومة حتى الآن عن حلها، ولأن الأيام علمتنا أن كل مشكلات الدنيا لها حل.. فنحن اليوم نفتح ملف الأزمة التي سماها الكثيرون بالصندوق الأسود، نظرًا لما تحمله المعلومات ودلالاتها من مفاجآت، نغوص في أعماقها ونتعرف على أسبابها الحقيقية، لعلنا نقدم الروشتة التي تساعد في الشفاء من المرض. يظهر الرقم الأول مفزعًا.. عندما نعرف بأن خمس موازنة مصر بالضبط يذهب إلى دعم الطاقة (حوالي 100 مليار جنيه)، وأن أكثر من نصف هذا المبلغ يتجه إلى دعم السولار، وبالرغم من أن استهلاك السولار اليومي يتجاوز 35 ألف طن، يعتقد الكثيرون أن توفيرها يحتاج الكثير من العملة الصعبة للاستيراد (حوالي نصف مليار دولار شهريًا) إلا أن المفاجأة هي أن الإنتاج المحلي يغطي حوالي 65% من الاحتياجات، بل الأكثر من ذلك أنه بدءًا من شهر مارس الماضي زادت وزارة البترول من كميات السولار المطروحة في الأسواق لتصل إلى 38 ألف طن يوميًا، وهو ما يزيد بنسبة 10% عن احتياجات السوق الطبيعية، والسؤال إذًا.. لماذا تحدث الأزمة؟ يتحدث الجميع عن التهريب، ونحن هنا لا نعني بالطبع ذلك الذي يمارسه البعض بغرض تخزين السولار، أو بيعه في )جراكن( على الطرقات بسعر يصل إلى الضعف، وإنما نتحدث عن عصابات ومافيا تقوم يوميًا بتهريب قرابة 20% من الإنتاج، بل إن هناك الكثير من مكاتب التوكيلات وتموين السفن قامت تلك المافيا بإنشائها خصيصًا لتكون بمثابة الغطاء، كما قام بعضهم بشراء سفن صيد مستعملة من أجل بيع السولار بالدولار للسفن الأجنبية، ومن أجل ذلك تم توسعة خزانات مراكب الصيد التي تستوعب 150 طنًا لتصبح 300 طن، ولك أن تتخيل أن الكثير من مراكب صيد السمك قد تركت تلك الوظيفة تمامًا واتجهت إلى التهريب، فإعادة بيع السولار المدعم يوفر للبواخر الأجنبية حوالي 500 دولار في الطن، في حين يحصل صاحب السفينة على الطن المدعم ب 1100 جنيه، وهو ما يمنح للصياد مكاسب تصل إلى 2500 جنيه في الطن، بدلًا من 300 جنيه هي صافي أرباحه بعد رحلة صيد مرهقة، كما أثر ذلك بشكل مباشر أيضًا على صناعة الثلج، فبعد أن كان المركب يستهلك في الرحلة قرابة 7000 لوح ثلج، أصبح حاليًا يكتفي بألف لوح، لأنه حول الثلاجات إلى خزانات سرية للتهريب، تقوم بتفريغ حمولتها في السفن التجارية العابرة من الدول الأجنبية المختلفة -وخاصة من اليونان وإيطاليا- عبر خراطيم ضخ مباشر، وعند العودة تقوم البواخر المصرية بتسوية أمورها مع المسئولين، ومع أن السفينة تعود بدون سولار وبدون أسماك، إلا أنها تختم دخول الميناء بدون عائق.. بحجة أنها باعت الأسماك خارج الميناء. وإذا كانت الفترة الأخيرة قد شهدت بعض الحملات بهدف التضييق على المراكب الكبيرة، وتفتيشها بدقة عند الدخول والخروج، وعدم السماح لها إلا بنسبة السولار التي يحتاجها المركب فعليًا خلال رحلته، فإن تلك الإجراءات لم تقف حائلًا أمام عصابات التهريب التي كانت قد تكونت واتسع نشاطها، وليس لديها الاستعداد للتنازل عن الأرباح المغرية، ولم يعد سرًا أن عمليات التهريب الآن تتم بشكل أساسي من خلال عدد من الفتحات الصغيرة التي تربط بين بحيرة المنزلة والبحر المتوسط، وأشهر تلك المناطق هي (عزبة البرج)، بالإضافة إلى منطقة (الشبول) و(الجمالية)، والتي تستطيع من خلالها مافيا السواحل اختراق مياه البحيرة، وهنا بدأ دور(الحسكة) وهي اللنشات فائقة السرعة التي تم تجهيز 200 منها في بحيرة المنزلة، وأغلبها في (عزبة البرج)، التي تخصصت بعض عائلاتها في تلك التجارة مثل السوايسة والسراحنة والجعافرة، وأصبحت هناك مقاهي معروفة بالاسم يتخذها السماسرة مقرًا لهم، حيث يقوم اللنش بتحميل ما يقرب من 20 (جركن) سولار بحمولة 1 طن ينطلق بعدها لمدة 15 دقيقة في عرض البحر، ثم يعود ليكرر عمليات النقل طوال الليل، وأخطر ما في الموضوع.. أن قوة ماكينة (الحسكة) تصل إلى 170 حصانًا، بينما قوة لنش المراقبة 75 حصانًا، مما يجعل هناك صعوبة في لحاق رجال الأمن به . أهم وأشهر الفتحات التي يتخذها المهربون للعبور إلى البحر المتوسط هي فتحة (كوبري البغدادي)، والتي يصعب مراقبتها ليلًا لوجودها على أطراف البحيرة، وقربها من شاطئ البحر، وبالرغم من أن هيئة الثروة السمكية أقامت عازلًا مائيًا من خلال تركيب أعمدة حديدية في الفتحة، إلا أن عصابات التهريب تمكنت من شق فتحة تسمح بمرور (الحسكة)، وهو ما دعا القوات المسلحة إلى القيام بإنشاء حواجز جديدة بتكلفة تقارب النصف مليون جنيه. أعرف أن البعض قد يصاب بالصدمة نتيجة هذه المعلومات، والبعض الآخر قد ينتابه الإحباط، ولكن الأهم عندي أن نصل إلى الجذور الحقيقية للمشكلة وأبعادها، حتى نتعرف على الحلول الممكنة لها، وهو ما سنناقشه بمزيد من التفصيل في الأسبوع القادم إن شاء الله. [email protected]