إذا أردت أن تختبر أمة للتعرف علي عقيدتها ، و صدقها مع ربها ، و معدن إيمانها ، فلتختبرها في علاقتها بغيرها من الأمم : كيف تتعامل مع مخالفيها في الدين ؟ و كيف تتصرف مع خصومها في العقيدة ؟ و ما هو سلوكها المتبع في حروبها مع أعدائها ؟ و هنا نجد أمه الاسلام وحدها ، قمة شاهقة تتقاصر دونها الأمم ، و جنة خضراء وسط صحراء قاحلة لا تعرف ماء ولا تنبت كلأ ....و هنا يجب أن نعرض لبعض آيات الكتاب الحاسمة و القاطعة ، و هي تقيم الحدود الفاصلة . و تضع القواعد و المعايير المعنوية و العملية في تعامل المسلمين مع غيرهم : 1 0لما كان رسول الله -صلي الله علية وسلم - و أصحابه بالحديبية ، حين صدهم المشركون عن البيت الحرام ، و قد اشتد عليهم ذلك ، فمر بهم اناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي -صلي الله عليه و سلم- : نصد هؤلأ كما صدنا أصحابهم ( يعنون المشركين مثلهم ) فأنزل الله تعالي ( و لا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) المائدة 2 أي لا يحملنكم بغض قوم صدوكم عن المسجد الحرام و منعوكم من الوصول إليه ، أن تعتدوا علي أصحابهم و إن كانوا مشركين مثلهم، بل اعدلوا و لا تظلموا و لا تتجاوزوا كما قال تعالي ( و لا يجرمنكم شنئان قوم علي ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوي ) المائدة 8 فإذا كان البغض يؤدي إلي ظلم الناس للناس، فإن ذلك منهي عنه في شريعة الاسلام . و لا ينبغي أن يكون ذلك بين المسلمين و غيرهم . فالعدل هو أداة تعامل المسلمين مع مخالفهم في العقيدة ، برغم أن العالم قد شهد علي طول تاريخه ، و لا يزال : أن الخلاف العقدي هو من أهم أسباب و أوسع أبواب الظلم بين البشر0 2 0قال ابن القيم رحمه الله: " لما نهي الله تعالي في أول سورة الممتحنة عن اتخاذ الكفار أولياء ، و قطع المودة بيننا و بينهم ، توهم البعض أن برهم و الاحسان إليهم من الموالاة و المو دة ، فبين سبحانه و تعالي أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها ، و أنه لم ينه عن ذلك، بل هو من الاحسان الذي يحبه و يرضاه و كتبه علي كل شئ ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلو كم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) الممتحنة 8" و يقول ابن القيم أيضا : "فهذه الآية صريحة في الأمر بالإحسان إلي الكفار الذين يسالمون المؤمنين و لا يؤذونهم و العدل معهم" فالفصل صريح و التمييز واضح بين النهي عن موالاة غير المسلمين ، و بين العدل معهم و الإحسان إليهم . و هي دقة متناهية يلفت القرآن النظرإليها .....و هي صورة لم تزل غير واضحة عند البعض علي أساس التطبيق الخاطئ لمبدأ الولاء و البراء0 3 قال تعالي ( و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) البقرة 190 فإذا وجب القتال . فلا يجوز العدوان ، حيث يحرم علي المسلم ارتكاب أي من المناهي مثل : التمثيل بالأعداء ، أو قتل النساء ،أو الصبيان ، أو الشيوخ ، أو أصحاب الصوامع ، أو تحريق الأشجار ، أو قتل الحيوان لغير مصلحة القتال0 فالعدوان في نظر الاسلام هو العدوان . حتي لو كان في الحرب مع غير المسلمين . و تعليل النهي عنه بأن الله لا يحب المعتدين دليل علي أنه نهي محكم ، و غير قابل للنسخ مهما حدث ، فالإخبار بعدم محبة الله تعالي للفعل ، يجعله غير قابل للنسخ0 04 كما يجب علي المسلم أن يتحرز من الخيانة بكل سبيل ، حتي عند قتال غير المسلمين المعتدين ( و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم علي سواء إن الله لا يحب الخائنين ) الأنفال 58 و هو نص حاسم جاء في معرض الحديث عن قتال أعدء الله و الدين . و مع ذلك فقد حذر من خيانتهم و لهذا لما سار معاوية -رضي الله عنه-بجيشه تجاه بلاد الروم كي يظفر ببعض التفوق التكتيكي . و ذلك حتي تنتهي مدة الهدنة بينه و بينهم قائلا : حتي نفي بالعهد ثم نغير عليهم . قال له عمرو بن عنبسة السلمي : الله أكبر!! وفاء لا غدر !! فقال معاوية : ما قولك وفاء لا غدر ؟ قال : لقد سمعت رسول الله -صلي الله علية و سلم -يقول : أيما رجل كان بينه و بين قوم عهد ، فلا يحلن عقدة و لا ويشدها حتي يمضي أمدها و ينبذ إليهم علي سواء....فما كان من معاوية -رضي الله عنه - ألا أن رجع بالجيش مكانه0 هكذا كانت الأمة تعرف حدود دينها وتحض أمراءها علي الالتزام بشريعة ربها00وهكذا كان الحكام والأمراء ينزلون علي حكم الله في مجال علاقة الأمة بأعدائها ومخالفيها في العقيدة0 05وفي قوله تعالي{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولاتنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون 0ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربي من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ماكنتم فيه تختلفون }النحل 91-92 يأمرالقرآن بالوفاء بالعهد ويحض عليه بجعله في كفالة الله وتحت رقابته 00كما يشبه الناقض للعهد تشبيها مزريا تأباه النفوس السوية وتأنف منه الطبيعة الانسانية ويرفضه العقلاء وذلك بتشبيهه بامرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه 00كما يأمر بالوفاء بالعهد لغير المسلمين مهما كانت مصلحة النقض ، فالوفاء واجب مع غير المسلمين وإن ظهرت قوة أخرى غيرهم ، أقوى وأعز ، قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء - أي قبل الاسلام - فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ، ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز ، فنهوا عن ذلك 00وهذا الأمر بالوفاء مع غير المسلمين إنما جعله الله تعالي اختبارا للمسلمين ، وسوف يحاسبهم عليه يوم القيامة{إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ماكنتم فيه تختلفون} 06 كما يعلمنا القرآن كيف نتقي الله في المشركين الذين يحاربون الإسلام والمسلمين ! ! والذين إذاظفروا بالمسلمين لايراعون فيهم قرابة أو حلفا ، أو لايراعون الله فيهم0كما لا يراعون في المسلمين عهدا ، كما قال تعالي : ( كيف وإن يظهروا عليكم لايرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)..هؤلاء هم الذين أمرنا أن نتقي ا لله فيهم إذا عاهدناهم ، وأن نجعل الله سبحانه بيننا وبينهم ، وأن نفي لهم بعهدهم( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا أليهم عهدهم إلي مدتهم إن الله يحب المتقين ) التوبة 4 وهي درجة عظيمة من درجات ضبط النفس والتحكم في المشاعروالتصرفات لا تقوى عليها إلا الأمم العظيمة ، فالوفاء والعدل مع الموافقين في العقيدة والدار قد يكون سهلا ، لكن الوفاء والعدل مع المخالفين في العقيدة والدار بل والمحاربين هو مما لا تطيقه النفوس البشرية ، ولا تقوى عليه الجبلات الإنسانية00ورغم ذلك فقد أراده الله تعالي لأمة الاسلام وأراد لها أن تبلغ هذه الدرجة0 وقد التزم المسلمون الأوائل بهذه الأحكام وقاموا بها خير قيام : في علاقاتهم مع غيرهم ، وفي عهودهم ، وفي حروبهم التي لم يشهد العالم مثلها في نظافتها وقيمتها0 ولعله من المناسب هنا أن نلفت الانتباه إلي حرص القرآن علي إبراز قيمة حب الله تعالي لمن كان وفيا عدلا ولو مع أعداء الله المحاربين له ولرسوله ، فنجد الآيات تنص علي : { فإن الله يحب المتقين } آل عمران 76 { ان الله يحب المتقين } التوبة 4 ،7 { ان الله يحب المقسطين} المائدة 42 والممتحنة 8 وذلك كله في معرض العلاقة مع غير المسلمين ، وفي هذا استجاشة واضحة للقلوب والضمائر لكي تهتم وتنتبه لهدا الأمر الخطير0 كما وصف الله تعالي الخارجين علي أحكامه في هذا المجال والمفرطين في الالتزام بها بالمعتدين والخائنين : فقال تعالي { إن الله لايحب المعتدين } البقرة 190 { ان الله لا يحب من كان خوانا أثيما } النساء 107 {ان الله لا يحب الخائنين } الأنفال 85 ، وذلك كله في إطار مشروع اسلامي إيجابي، يسعي لاصلاح العالم ، و ينأي به عن الفساد وينبذ فيه المفسدين ، فالله { لا يحب المفسدين } المائدة 64 و القصص 77 0