يعرف خبراء الدعاية العسكرية سلاحًا مبتكرًا يسمونه الحرب النفسية, ويستخدم هذا السلاح من أجل خفض الروح المعنوية لجنود العدو وإرباك قواته والتشويش على قيادته وإضعاف قدرتها على التركيز والإنجاز, فضلًا عن إعطاء وثبة قوية لعزيمة الجنود في الجانب المهاجم, وتسهيل المهام الحربية عليهم, وتتمثل خطورة هذا السلاح في أنه يحقق نتائج مذهلة ما كان لمئات الآلاف من الجنود أن يحققونها, فضلًا عن أن تأثير نتائجها على الجانب المعتدى عليه، وفقدان ثقته في قدرات قواته قد يمتد لفترة طويلة بعد انتهاء المعركة. ويقول خبراء علم النفس السلوكي, إن أي مواطن مهما كانت رباطة جأشه وشديد ثقته بنفسه, حينما يشعر بأن ثمة أحد يراقبه في كلامه أو مشيه أو تصرفه عمومًا, حتمًا سيصاب بالارتباك والتلعثم, وقد يتعرض لسلسلة متتالية من الأخطاء الجسيمة. واستغلالًا لهذه السيكولوجية, قام خبراء الحرب النفسية بابتكار "تكنيك دعائي" يسمونه "تحطيم الخصوم"، وهذا التكنيك يعتمد بدرجة كبيرة على الدعاية السوداء المستمدة من التركيز الإعلامي الشديد على العنصر المستهدف مع الانتقاد المتواصل له لدرجة تخلق حالة عامة من الرفض المطلق له حتى في أقرب الحلقات شديدة الثقة به، مما يصيب الشخص المستهدف نفسه بحالة فقدان ثقة وشك مطلق في كل الثوابت. وهذا التكنيك غير الأخلاقي.. استخدمه العرب الأقدمون في حكايات سمرهم, مثل الحكاية التي نعرفها جميعًا عن جحا وابنه وقصتهما مع طريقة امتطاء الحمار, وكذلك القصة الأخرى التي ابتدع فيها جحا أكذوبة الفرح في الحارة المجاورة من أجل أن يصرف أطفال يلهون، ولما بالغوا في تصديقه, اقتنع هو أن هناك فرحًا بالفعل وذهب في أثرهم. ومن التكنيكات الدعائية الأخرى التي يستخدمها الإعلاميون الآن, تكنيك "التكرار" في ترديد المبررات والاتهامات لدرجة مملة بهدف خلق شرخ وجداني عميق ووضع بذرة للتخوف والشك سرعان ما تنمو رويدًا رويدًا حتى تصبح "مسلمة" يقينية لا يجوز تكذيبها, كأن يكرر أحدنا اتهام شخص ما بأنه لص رغم ما عرفه الناس عنه من التزام وأمانة, في البداية سيرفض الناس قبول الاتهام له ولكن مع إصرارنا على تكرار توجيه الاتهام إليه في كل المناسبات يبدأ الشك يساور بعضهم في صحة اتهامنا ويبدأون في تأويل كل تصرفات الرجل ليتماشى مع هذه التهمة. وهناك تكنيك "التضخيم" ويقوم فيه رجل الدعاية - ولا نقول إعلام لما يتوجبه من موضوعية - بتضخيم الأحداث البسيطة والصغيرة وتهويلها, كأن يتظاهر مئات الأشخاص في مكان فنقوم بنقل التظاهرة وكأن الملايين شاركوا فيها, أو أن يتشاجر بعض الناس بعضهما البعض فى مشاجرة عادية تحدث كل يوم منذ قديم الأزل فنسميها حربًا أهلية, ويقابل ذلك تكنيك "التجاهل" ويقوم على تجاهل كل أمر مفيد يفعله الطرف الآخر بينما نقوم بالتركيز على حسناتنا ومميزاتنا. ورغم أن التعميم من الأخطاء في منطق التفكير إلا أن هناك تكنيكًا يقوم على مبدأ "التعميم" كأن نعتبر كل من هو ملتحٍ شخصًا ينتمي للتيار الإسلامي, مع أن الرهبان اليهود وقساوسة المسيحية يلتحون أيضًا, بل إن بعض شباب الهيبز ملتحون أيضًا. وهناك تكتيك "الترغيب والترهيب" وبالقطع كلنا نعرف مثل هذا النوع من وسائل الدعاية , ويقابله تكنيك "الترغيب والتنفير"، ويقوم بلصق ما هو جيد وطيب ومفيد بأحد الأشخاص بينما يلصق عكس ذلك على الطرف الآخر لدرجة تجعل أحدهما يبدو كملاك وآخر كشيطان. ويوجد أيضًا تكنيك "تجريح الخصوم"، ويهدف للنيل منهم وإضعاف حالتهم المعنوية ويقابله تكنيك "التبجيل" كأن نضفي احترامًا ومراتب علمية على أنفسنا وعلى فريقنا وعلى من يؤيدوننا, فى حين نتهم الآخرين بالجهل والتفاهة والسفه. لقد أردت أن أسرد ذلك من أجل أن أضع للقارئ توصيفًا علميًا لحالة الانفلات الإعلامي الذي تشاهده مصر الآن, ولأؤكد له أنه ليس انفلاتًا بما يحمله من علامات الفوضى ولكنه عملًا مخططًا وممنهجًا من أجل تنفيذ هذه الحرب النفسية, مع أن المتحاربين هنا أبناء وطن واحد وثقافة واحدة, بل وجسد واحد وأي محاولة لفصلهما عن بعضهما البعض تعني موتهما معًا, وبالقطع مصر ستبقي بكليهما لأبد الأبدين, فما هي إلا سحابة صيف ستنقشع بمجرد أن يزول نظام مبارك وأدواته وأجهزة إعلامه التي تزفر الآن زفرتها الأخيرة قبل أن تفارق جسد مصر, هذا الجسد الذي أصابته بالهزال.