أسعدنى قليلاً وأزعجنى كثيرًا ما كتبه الصديق الشاعر المهندس ياسر أنور تعقيبًا على مقال الناقد والصديق الدكتور حسام عقل بعنوان: (أحمد سراج شاعرا)، وقد قارن فيه "عقل" مقارنة سريعة بين ديوان لسراج وديوان لأحمد عبد المعطى حجازي، وقد نُشِرَ المقالان فى أخبار الأدب، وأعاد ياسر أنور نشر تعقيبه فى (المصريون) ثم أعاده مرة ثالثة فى جريدة الشعب بتاريخ 12 مارس الماضي؛ أما عن سعادتى فلعودة هذا الجو (الصحي) من الحوار حول الشعر، فقد أعاد إلى ذاكرتى تلك الحوارات التى دارت على صفحات المجلات والدوريات الأدبية فى الثلث الأول من القرن العشرين، والتى جمعها وأرَّخ لها باقتدار الراحل الكبير الأستاذ الدكتور محمد أبو الأنوار فى كتابه (الحوار الأدبى حول الشعر)، وقد نتج عن هذه الحوارات مدارس نقدية لم تزل الدراسات الأدبية تتجول فى قاعاتها؛ هذا ما أسعدنى قليلاً، أما ما أزعجنى كثيرًا فهو ما تضمنه ذلك التعقيب من تحامل واضح وخروج عن النسق النقدى المفترض، وقبل أن أورد أمثلة لهذا، أذكر أن الدكتور حسام عقل لم يقدم دراسة نقدية مستفيضة لديوان سراج، وإنما تناوله فى عمود مختصر، وما قدمه من رؤية نقدية تتناسب مع حجم وحدود مقاله، فطرح بعض السمات العامة التى تضمنها الديوان مستدلا على بعضها دون دخول فى الأمثلة والتفاصيل، وهذا فى حدود المقال مسموح به ولا يعد عيبا مطلقا، ويبقى الناقد مسئولا عن تقديم الأدلة المستفيضة لمن يشاء ممن لا يحسنون قراءة النص، أما المعنيون بالشعر إبداعا ونقدا، فيكفيهم إشارات الناقد إلى ما يتصل بها من ملامح أدبية فى النص، لقد تعامل ياسر أنور مع ما قدمه الناقد باعتباره دراسة مستفيضة ولا يليق هذا إلا بمن يتصيد، ولا يضع الأمور فى نصابها. والغريب أن (عقل) أجاب عن الأسئلة التى طرحها (أنور) واستنكرها عليه، فعلى سبيل المثال قدم الناقد المبرر الأدبى لعقد تلك المقارنة السريعة بين حجازى وسراج فى بداية مقاله، مشيرا إلى أن ديوانيهما هما الأوليان اللذان صدرا بعد الثورة وعبرا عنها، وقد تسلل إلى عقد تلك المقارنة بأدب شديد فقال: "وإذا ما وضعنا تجربة (أحمد سراج) على خط المقارنة (ولا مفر هنا من أفعل التفضيل بين جيلين)، مع (طلل الوقت) لأحمد عبد المعطى حجازي، وهو الديوان الذى صدر لحجازى عقب ثورة يناير.."، هكذا أجاب عقل بحسه النقدى المرهف عن تساؤل ياسر أنور عن سبب عقد المقارنة بين جيلين بعيدين، ولو تبصرها أنور لما تساءل وألح على السؤال بمثل قوله: "المقالة كان فيها تعمد واضح لإقحام اسم الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى فى مقارنة ليست فى محلها, وقد حاولت أن أبحث عن مبرر مقنع لهذا الإقحام, لكننى أعترف بأننى قد عجزت". ثم أشار أنور إلى أن حجازى قامة شعرية، ومما قاله فيه: "فحجازى قامة شعرية كبرى ورائد من رواد الشعر ليس فى مصر فقط, بل وفى العالم العربى دون مبالغة، ونستطيع أن نجزم بأن حجازى الآن يعد واحدًا من شعراء قلائل يجلسون بارتياح, ودون منافسة على قمة الشعر العربى المعاصر (حتى وإن ظل عشرين عامًا لا يكتب الشعر). وهنا يحق لى أن أطالب ياسر أنور بتقديم الأدلة الأدبية على تلك الأحكام الشمولية الغريبة التى تجاوزها الزمن بعد تنصيب أحمد شوقى أميرا للشعراء، فلم يعد يليق بنا أن نُجلس أحدًا على قمة الشعر العربى المعاصر إن لم يرتق هو تلك القمة بظاهرة شعرية متفردة، وهو ما لم يفعله حجازى قطعًا، والحقيقة أننى أرى (أنور) قد بالغ فى هذا الحكم مبالغة تسيء إليه، ولم يدفعه إليها إلا نقد حسام عقل، فغرس نفسه فى وحل حجازي، أما أنا فأكاد أجزم أن (حجازي) بعد بداياته فى (مدينة بلا قلب) لم يقدم شيئا متميزا، ولا يعد رائدا أو علامة فى شعرنا المعاصر، فقد خفت صوته وتشابه مع مئات الأصوات فاتسق فى سربها، بخلاف أبناء جيله مثل أمل دنقل وصلاح عبد الصبور، فأمل قدم نموذجًا متفردًا لشعر التفعيلة، لم يرق إليه شاعر على نحو تنوع وغزارة أمل دنقل، أما عبد الصبور فلو لم يقدم إلا مشروعه فى المسرح الشعرى لكفاه ووضعه فى مكانة مرموقة فى تاريخنا الشعرى فى هذا المجال بجانب أحمد شوقى وعبد الرحمن الشرقاوي، ناهيك عن مشروعه الشعرى عميق الرؤى.. فماذا فعل حجازي..؟! لقد هجر الشعر والوطن معًا ثم عاد ليكتب من خلال جريدة الأهرام كتابات أسهمت فى التأصيل والتمهيد لحالة التشرذم التى يعيشها الوطن الآن. ويأخذ أنور على عقل مدحه اعتماد أحمد سراج آلية التكرار، فكرر كلمة (الحضور) نحوًا من عشرين مرة فى قصيدة، واعتبر أنور أن التكرار ممجوج وليس سمة إبداع، مستدلا على ذلك بدعوة الناقد العربى القديم على بيت النوى الشهير بأن يسلط الله عليه شاة لتأكل النوى، ثم يقول أنور: (شتان الفارق بين ناقد لديه حاسة التذوق، وآخر يحول النص إلى دراسة ميكانية وإحصائية)، وفى تصورى أن (أنور) لم يكن موفقا مطلقا فى هذا الانتقاد؛ إذ اعتبر التكرار ممجوجا لذاته دون النظر إلى دلالته وحسن توظيفه، وكأن ما فعله الناقد القديم فى هذا البيت ينطبق بالضرورة على أية حالة تكرار أخرى، والذى يتعامل مع نقد النص بهذا الفهم هو الذى يحول النقد إلى ميكانيكا لا روح فيها، وهذا ما وقع فيه (أنور)، أما نحن فنرى أنه لا يوجد حكم مسبق على ظاهرة التكرار؛ بل يجب أن ندرس كل حالة فى إطارها، وهكذا فعل الناقد القديم؛ ففى حين دعا على النوى لعدم توظيفها فنيًّا، لم يجد غضاضة فى تكرار الغضا فى قول مالك بن الريب (أَلا لَيتَ شِعرى هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً ** بِجَنبِ الغَضا أُزجى القَلاصَ النَواجِيا - فَلَيتَ الغَضا لَم يَقطَعِ الرَكبُ عرضه ** وَلَيتَ الغَضا ماشى الرِّكابَ لَيالِيا - وَلَيتَ الغَضا يَومَ اِرتَحلنا تَقاصَرَت ** بِطولِ الغَضا حَتّى أَرى مَن وَرائِيا - لَقَد كانَ فى أَهلِ الغَضا لَو دَنا الغَضا ** مَزارٌ وَلَكِنَّ الغَضا لَيسَ دانِيا)، إذ إن الناقد القديم أدرك أن الغضا بدلالته على المكان الذى شهد لقاء الأحبة امتزج بهذه الذكرى حتى اتحد بالمحبوب وأصبح ذكره ما هو إلا ذكر المحبوب ذاته، أما إذا اعتمدنا منهج ياسر أنور فى الحكم على ظاهرة التكرار دون تبصر لقلنا فى أنشودة المطر للسياب - وقد تكررت كلمة (مطر) فيها خمسا وثلاثين مرة - ألا سلط الله شمسا على المطر فبخرته وأراح القصيدة منه...! إن من يفعل ذلك مرددا ما قاله الأقدمون دون وعى فهو يرتكب سخافة نقدية ما أقبحها. أرجو من الصديق ياسر أنور أن يتقبل هذا من باب العتاب، (ويبقى الود ما بقى العتاب)، ومرحبًا ثم مرحبًا بالحوار الأدبى الجاد حول الحياة الشعرية والنقدية التى نعيشها، والتى يسهم فيها ياسر أنور نفسه إسهامًا كبيرًا، وأشير إلى أن ياسر أنور نشر مقاله فى أخبار الأدب تحت عنوان: (وردة اعتذار لأحمد عبد المعطى حجازي)، وليسمح لى أن أستعير طريقته ولياقته فأقدم باقة ورد للناقد النشيط والإعلامى المتألق الدكتور حسام عقل.