الرقابة السابقة على قانون البرلمان: "لا أدري من أين جاءوا بتلك العبارة، فلم تزل عالقة في وهم القانونيين، وقد نقلوا هذا الوهم للعامة فتجد كل ذي خيال يضع لها تصورا في ذهنه، وللأسف الشديد فإن كثيرًا من أساتذة القانون ورجال القضاء قد استجابوا لهذا الخيال ويحاول كل منهم وضع محاور تلك العبارة دون قراءة التنظيم الدستوري للمسألة، فيرى البعض مثلًا أن الرقابة السابقة على القانون معناها أن تحكم المحكمة الدستورية قبضتها على القانون تمحو فيه ما تشاء وتثبت حتى تصل بنصوصه إلى الكمال الدستوري، كما تراه هي ثم تنقله من بعد إلى مجلس الشورى الذي يثبت ما أثبتته ويمحو ما محته ثم يعيده اليها لتستحسن فعله فتقضي بأنه قد أعمل مقتضى حكمها وعليه فإن دور مجلس الشعب في سن ذلك القانون لا يعدو أن يكون دورًا تمهيديًا وللمحكمة الأمر من قبل ومن بعد. ويستمد هذا التصور وجوده من لفظ "الرقابة" التي يضع لها البعض تعريفًا يستمده من رقابة الأب لبناته العذارى والزوج لزوجته اللعوب ووزير التموين للمخابز ومحطات البنزين ويبقى تصور المخبر الذي يراقب شخصًا فلا يغيب عن عينه ماثلًا في ذهن كل من يتحدث عن الرقابة على دستورية قانون مباشرة الحقوق السياسية. لننظر إذًا إلى النص الدستوري الذي حوته المادة 177 من الدستور الجديد : " يعرض رئيس الجمهورية أو مجلس النواب مشروعات القوانين المنظمة لمباشرة الحقوق السياسية والانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية على المحكمة الدستورية العليا قبل إصدارها لتقرير مدى مطابقتها للدستور، وتصدر قرارها في هذا الشأن خلال خمسة وأربعين يومًا من تاريخ عرض الأمر عليها، وإلا عد عدم إصدارها للقرار إجازة للنصوص المقترحة.. فإذا قررت المحكمة عدم مطابقة نص أو أكثر لأحكام الدستور وجب إعمال مقتضى قرارها، ولا تخضع القوانين المشار إليها في الفقرة السابقة للرقابة اللاحقة المنصوص عليها في المادة 175 من الدستور". واختصارًا فإن المادة 175 تنظم مسألة الرقابة الدستورية اللاحقة لغير تلك القوانين المذكورة في المادة 177 وهي مسألة خارج الموضوع . والحقيقة أن التنظيم الدستوري للدور الذي تقوم به المحكمة الدستورية بالنسبة للقوانين المتعلقة بالمواد المشار إليها في المادة 177، وأهمها بالتأكيد القوانين التي تتعلق بالانتخابات التشريعية والرئاسية لم يهدف أبدًا إلى أن تعمل المحكمة رقابتها على القانون بل العكس هو الصحيح فقد استهدف المشرع الدستوري إلغاء رقابة المحكمة على تلك القوانين وتقليم أظافرها السياسية التي لم تتورع عن استعمالها لحله من قبل في مشهد أقل ما يقال عنه أنه أثار جدلًا كبيرًا امتد إلى سلطات الدولة الأخرى وتسبب في إقصاء المجلس العسكري من المسرح السياسي في مشهد تصادمي بين عنصري السلطة التنفيذية والاستعاضة عن الانهيار التشريعي ببعض الإعلانات الدستورية التي غلت يد المحكمة عن رقابتها أيضًا، وكما أن الدستور الفرنسي صدر في أجواء سوء الظن بالكنيسة فكانت العلمانية هاجسه الأكبر فإن الدستور المصري صدر في أجواء مشابهة ومطالبات بتطهير القضاء خصوصًا الدستوري منه مع ذيوع حديث أدلت به تهاني الجبالي القاضية بالمحكمة لمجلة أمريكية قالت فيه إنها تتواصل مع الجيش لمنع حكم الإسلاميين من خلال المحكمة. وبالرجوع إلى نص المادة 177 من الدستور المصري نلاحظ أن المشرع الدستوري لم يستعمل لفظ الرقابة سوى في عجز المادة، تأكيدًا على منعها لاحقة للقوانين التي تتعلق بالانتخابات التشريعية ورغم أن المشرع لم يكن أبدًا في حاجة إلى هذا التأكيد لأن صدر المادة يدل عليه إلا أنه وجد من الملائم قطع الطريق على ثمة تفسير خاطئ من المحكمة في المستقبل يعطي لها أي سلطة على تلك القوانين أو من المحاكم الأخرى في الإحالة إليها تحت ذريعة شبهة عدم الدستورية. يلاحظ أيضًا أن الدستور إذ نص على اعتبار نصوص القوانين متفقة معه متى تأخرت المحكمة الدستورية عن اصدار قرارها مدة تزيد على 45 يومًا يدل على اتجاه المشرع إلى اعتبار قرار المحكمة غير ذي أهمية مقارنة بعنصر الوقت، وقد رأى المشرع أن 45 يومًا من عمر الأمة تفوق في أهميتها قرار المحكمة الدستورية، الأمر الذي يدل قطعًا أن إعادة القانون من قبل مجلس الشورى إلى المحكمة مخالف بالتأكيد لهدف المشرع من النص فعنصر الوقت هو في نظر المشرع الدستوري عنصر حاسم وأولى بالرعاية. الأصل أن المشرع منزه عن اللغو، فهو يعني دائمًا ما ينص عليه فإن هو منع الرقابة اللاحقة فقد غلت يد المحكمة الدستورية وأية محكمة أخرى عن نظر مسألة حجب المشرع سلطانهن عنها، والأصل أن المشرع منزه عن السهو فهو لم يغفل النص على إعادة القانون إلى المحكمة الدستورية بعد أن يعمل المجلس مقتضى ما رأته المحكمة في النصوص ولترى المحكمة إن كان المجلس قد قام بذلك من عدمه وإنما عدم نصه يعني بالقطع منعه تلك الإعادة إلى المحكمة التي انقطعت صلتها بالقانون إلي أن يعدل أو يستبدل بقانون جديد. نخلص من ذلك قولًا واحدًا أن بسط أي محكمة رقابتها على القوانين التي تتعلق بانتخابات البرلمان محظور بحكم الدستور ومخالف لنصوصة العاليات التي يجب على الشعب أن يحميها بنفسه لا أن ينتظر سلطة ما لتقوم له بذلك، لأن انتهاك الدستور من قبل أي سلطة لا جزاء له سوى المقاومة الشعبية المباشرة بالوسائل القانونية. لقد أخطأ المشرع الدستوري خطأ بالغًا عندما أبقى على المحكمة الدستورية وأخطأ المشرع العادي ممثلًا في مجلس الشورى بعدم إصداره قوانين تواجه شطحات المحاكم وضعف الفهم القانوني لدى القضاة أو سوء نياتهم، لهذا نهيب بالمشرع أن يصدر فورًا حزمة تشريعات تواجه افتئات مجلس الدولة على الحريات وحركة إقامة المؤسسات الدستورية بوضع عقوبات رادعة على القضاة عندما يكون الغش واضحًا في أحكامهم وأن يكون تقييم الحكم من هيئة منتخبة أو لجنة من مجلس الشورى ممكنًا وأن يكون من سلطات تلك اللجنة عزل القضاة وعقابهم قبل أن نفاجأ بمحكمة تصدر حكمًا في دعوى إدارية بعزل الرئيس ثم يحاجوننا بوجوب احترام أحكام القضاء. [email protected]