المشهد (ليلى / خارجى) الساعة : السابعة مساءً استوقفت بالأمس تاكسيًا لتوصيلى - على عَجَلٍ - إلى حى روكسى الهادئ بالقاهرة.. كان شابًا نحيفًا فى العقد الثالث من عمره تبدو عليه أمارات التعب والإجهاد.. فإما أنه لم يَنَمْ منذ أيام.. أو أنه كان نائمًا حتى بلغ منه الجهد مبلغه.. ليست تلك هى القضية.. المهم أن الرجل رحَّب بوجودى وسألنى عن المكان بالضبط، وسرعان ما انطلق مسرعًا يشق بى عُبَاب الزحام إلى مصر الجديدة.. لا أدرى لِمَ وجدتُ فى نفسى رغبةً للحديث معه على غير عادتى مع سائقى التاكسى، حيث ألتزم الصمت ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ولكن هذا ما حدث بالفعل، فقد دار بيننا هذا الحديث المَاتِع: أنا (مبتسمًا): إزى الحال يا ريس؟ هو (عابسًا): الحمد لله..هنعمل إيه؟ الراجل ده من يوم ما جه والفقر راكبنا!! سألته بخبث – سامحنى الله -: قصدك رئيس الوزرا؟ - لأ.. الريس ده!! - بس اللى أعرفه إنه ما حَصَلْش تأميم للثروات!! - الرجل وقد بدت عليه أمارات الدهشة من هول المصطلح: تأميم إيه؟! مش فاهم حضرتك؟!! - فوِّت دى يا أُسطى.. بس قولِّي، إنت كنت غَنِى أيام مبارك؟ - أبدًا، كنت (فقران) برضه وشايل ال (.....) على دماغ أهلى.. وبعدين كان ماله (أحمد شوقي)؟! راجل شبعان ومحترم!! - كان لابد لى أن أسأله عن هذا الشخص الذى لا أعرفه، فبادرته بقولي: أحمد شوقى مين؟ - أحمد شوقى اللى كان مرشح نفسه فى الانتخابات. - انتخابات إيه؟ - انتخابات الحكومة؟ - عندكم فى الدايرة؟ - لأ، اللى كان مرشَّح نفسه مكان الرئيس؟ - قصدك انتخابات الرئاسة؟! بس ما كانش فيه مرشح اسمه (أحمد شوقي)؟! أجابنى بتهكم (وكأنه يتعجب من جهلي): إزاى يا بيه؟ - زادت دهشتي، فكيف لمثلى - ممن يدَّعون الاشتغال بالسياسة - ألَّا يعرف أحد المرشحين فى السباق الرئاسى اسمه (أحمد شوقي)!! لم يطل تفكيرى كثيرًا فقد أراد أن يُسدى إلى أمارة تُساعدنى فى مهمة استدعاء الاسم فَصَاحَ بلهفة تشبه إلى حد كبير (لهفة أنشتاين): الراجل اللى راح يعمل عُمرة يا باشا.. اسمه إيه؟؟ (يحاول التذكر). فطنت حينها إلى أنه يقصد أحمد شفيق - صاحب أطول عمرة فى التاريخ - فبادرته بالقول: قصدك الفريق شفيق!! - فريق إيه حضرتك؟! أحمد شفيق نفسه! أغلقت فمى بإحكام حتى لا تتسرب قهقهة تضعنى فى حرج، ولم أزد على قولي: آآآه. صاح الشاب فأفصح عن أسنان رانت عليها طبقات أدخنة التبغ السوداء: كان ماله شفيق؟.. الراجل راح يعمل عُمرة ومن يوميها وهو قاعد فى الحَرَم وسَاب السياسة خالص.. ومع ذلك بيقولوا عليه حرامى مش عارف ليه؟ - سبحان الله.. فعلاً يا أسطى الراجل بقاله كام شهر بيعمل عمرة وبيصلى على آخره.. الله يعينه. سألنى مستنكرا: بس هو صحيح حرامي؟! - الله أعلم الموضوع لسَّه قدام القضاء وما أقدرش أقول إنه حرامى أو لأ. - الحق يتقال برضه.. الراجل الجديد ده راجل طيب وكل حاجة.. بس بقاله سنة وما عملش حاجة!! قاطعته باستغراب: سنة؟! - طَيبْ سنة ونص!! - كمان؟ بس فى رأيك إيه السبب؟ - السبب إنه بيسمع كلام المرشدين اللى حواليه (أى والله مرشدين بالجمع.. هكذا قالها)، وهمَّا اللى مودِّيينه هو والبلد فى داهية. - قصدك المرشد؟ - لأ.. دُول مرشدين كتييييير.. أنا (مجتهدا فى كتم ضحكة مُلحَّة): تعرف حد منهم؟ - أعرف الراجل (عبدالبديع) ده. - قصدك الراجل أبو دقن طويلة خالص ده؟! - أيوه.. الله ينور عليك. (كنا قد وصلنا أول سور الميريلاند بينما إشارة المرور متوقِّفة وهو ما جعلنى أستأذنه فى النزول) - إنت حضرتك مش نازل آخر السور؟! أنا (مبتسمًا): كان نفسى أكمِّل معاك يا أسطى.. بس أعمل إيه؟!! الإشارة واقفة واتأخرت على الدكتور (قصدى صديقى الدكتور فايز). ظن الرجل أنى سأذهب إلى الطبيب لعلة فى جسدى فبادرنى بقوله: لأ سلامتك ألف سلامة.. آجى مع حضرتك؟ - ألف شكر يا سيدي.. نزلت من التاكسى أُتمتم وأهذى بكلمات لا أدريها.. وحينها تذكَّرتُ ذلك المرشح الألمعى الفصيح الذى قَتَل وقُتل، وقلت: سبحان الله!! الطيور على أشكالها تقع.. ورُحتُ أسترجع هذه القطعة من الكوميديا السوداء التى أخرجها الإعلام باقتدار.. (وأخيرا أعتذرُ للقراء الكرام الذين لم يعتادوا لغتى العامية هذه.. ولكنِّى لم أجدْ بُدًَّا من نقلها كما هي). [email protected]