الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد، تذكرت هذه الكلمات للمرحوم الشيخ الشعراوي وأنا أراقب المشهد السياسي الحالي، كم كنت أتمنى كثيرًا أن أكتب مقالي هذا عن فكرة أو موضوع أو تجربة للنهوض بالوطن، ولكني أجدني مضطرًا مرة أخرى للتوقف مع الحاضر وأحداثه التي لا يمكن تجاهلها، لأنها تساهم كثيرًا في تشكيل واقع الغد، ليس فقط على المستوى السياسي.. وإنما أيضًا على المستوى الثقافي والاجتماعي. مع الأيام الأولى للثورة وبعد تنحي مبارك استشعر الجميع أن الوطن عاد إلينا، وأننا صرنا مسئولين عن كل شبر فيه، وكان نتيجة ذلك أن انتشرت تلك الثقافة بين الكثير من أطياف المجتمع، فحمل الشباب علم مصر وشاركوا في أي عمل يشعرهم بالانتماء للوطن، رأيت بعيني كيف وقف العشرات منهم بميادين القاهرة لتنظيم حركة المرور وتنظيف الشوارع بمنتهى الجد والإخلاص، كانت الغالبية الساحقة من الشعب بعد إنجاز الثورة تشعر بأمل كبير في المستقبل، وتتطلع لمزيد من البناء، كنا نحلم بانتخابات حرة ونزيهة، وقد تحقق حلمنا ورأينا برلماناً ورئيساً انتخبناه بكامل إرادتنا، جاء رئيس من الإخوان، وبرلمان أكثريته أيضاً من الإخوان، ربما كانت مفاجأة للبعض بما فيه الإعلام الذي تفنن في صناعة فزاعة الإخوان، ولكن المتابع لحركة الشارع وتوجهات المجتمع يعرف أنها نتيجة طبيعية، ولو تمت الانتخابات مرة أخرى اليوم فسوف تذهب الأكثرية مرة أخرى للإخوان، ربما تكون شعبيتهم في تناقص، وربما خسروا العديد من الحلفاء، ولكن المؤكد أن الإخوان حتى الآن هم الفصيل الأكثر وجودا في الشارع، والأفضل اهتماما بمشكلات المجتمع، بعد عامين من الثورة نشأت فيها عشرات الأحزاب الجديدة، ودخلت أسماء وقامات كبيرة إلى مجال العمل السياسي، أقول إنه بكل أسف ظلت الغالبية العظمى منهم بعيدة تمامًا عن هموم المواطن، تبنت غالبية الأحزاب خطاب نخبوي ليس له علاقة بما يعانيه رجل الشارع، وكان اهتمامهم بالظهور في الفضائيات أكبر من حرصهم على إيجاد حلول لمشكلاتنا المزمنة، وبالتالي لم تقدم المعارضة نفسها كبديل جاهز يقبله الشعب للنظام الحالي. كنت أتمنى أن يساهم الجميع كحكومة ومعارضة في تقديم نموذج الاختلاف الراقي الذي يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ولكن ساهم البعض في نشر ثقافة جديدة في المجتمع تتمثل في فرض الأمر الواقع وانتزاع الحق بالقوة، وهو ما انعكس على كافة المستويات السياسية والاجتماعية، فرأيناه يتمثل في البلطجة، وفي إشارات المرور، وفي قمامة الشوارع، ومع الباعة الجائلين، حيث تسود تلك الثقافة مع تنامي الشعور لدى البعض من غياب سلطة القانون الحاكمة، بالإضافة إلى ذلك الشعور الذي ساهم البعض في غرسه من أننا لا زلنا في مرحلة الهدم، ولم تحن لحظة البناء بعد، نتيجة عدم تحقيق مطالب الثورة كاملة، وهنا يجب أن نطرح السؤال الخاص بفهمنا للثورة.. هل هي هدف في حد ذاتها، أم وسيلة نهدف من خلالها إلى تحقيق البناء والنهضة؟ هل هدف الثورة هو إسقاط الدولة، أم بناء الدولة؟ عند إجابتك على الأسئلة السابقة ستفهم لماذا أتحدث عن تغيير يطرأ على ثقافة المجتمع. الوجوه غير الوجوه، والميدان غير الميدان، كان هذا هو شعوري وأنا أتجول منذ أيام في ميدان التحرير، صراخ وسباب بألفاظ نابية، وعصبية غير مبررة، لا أحد يعرف على وجه الدقة مَن يقود الميدان الآن ويتخذ القرارات بتصعيد العنف والهجوم على المنشآت، بعد أن كان التحرير رمزًا للبطولة والنضال والأمل لدى كل المصريين، صار الانطباع الآن لدى قطاع كبير من الشعب أن التحرير يساوي التحرش، وعدم الاستقرار، والمستقبل المجهول، صحيح أن هناك الكثير من الشباب الشرفاء والثوار المخلصين الذين يحملون الكثير من المطالب المشروعة وقد قابلت العديد منهم وتحدثنا عن هموم الوطن وكيف ننهض به، ولكن من دون شك فإن تحالف بعض قوى المعارضة مع الفلول بهدف نشر الفوضى واستمرار حالة عدم الاستقرار قد خصم كثيرًا من رصيد المعارضة الشريفة، لا يمكن أن نضع كل المعارضين في سلة واحدة، فهناك الكثير من الوطنيين الذين تختلف رؤيتهم مع الإخوان، ولهم في ذلك كل الحق، في مقابل وجود فصائل أخرى (تستكثر) أن يصبح الإخوان في سُدة الحكم، وهم على استعداد لإحراق مصر في مقابل أن يثبت فشل الإخوان في إدارة البلاد. أرجوكم.. انزلوا الشارع زوروا القرى والنجوع، واسألوا الناس عن رأيها في جبهة الإنقاذ، ومدى تعاطفهم معها؟ وجهوا التساؤل لرجل الشارع إن كان يصدق أن المرشد هو الذي يحكم مصر؟ اقتربوا أكثر من هموم الناس وأحلامهم ورغبتهم في استقرار البلاد وتحسن الاقتصاد حتى تتوفر لقمة العيش للجميع، أرجوكم افعلوا ذلك، فلن تتكرر تجربة إسقاط نظام مبارك مرة أخرى، صدقوني.. سيبقى هذا الوطن يسعنا جميعا.. مؤيدين ومعارضين، إسلاميين وليبراليين ويساريين، سنحيا فيه سويا لنتفق ونختلف، ولتطمئنوا.. فسيبقى الله حافظا مصر، فقد سبقت مشيئته تعالى أن يبقى هذا البلد محروسا بعينه ورعايته. [email protected]