للوهلة الأولى كانت المفاجأة صادمة بالنسبة لي، فطالب الجامعة الذى قابلته صدفة والذى يعتبر نفسه من طلاب التيار الإسلامى، لم يكن يعرف من هو صاحب الصورة التى تعلو الكتاب أمامي، فى البداية ظننتها مزحة فلم أكن لأتخيل أن أبطالا بهذا الحجم يمكن أن تمسحهم الأيام من الذاكرة، ولكن بعد اكتشافى للحقيقة أدركت أن ثمة أجيالاً قد ولدت ونشأت فى العقدين الأخيرين واستطاع الإعلام أن يلعب دورًا هائلاً ومحوريًا فى تشكيل الصورة الذهنية لهم بشكل مختلف. ولعل ذلك ما يدعونا أن نتوقف قليلاً أمام حياة هذا البطل الذى حلت الذكرى السابعة عشر لاستشهاده فى الخامس من يناير، وهى الذكرى التى صنعت علامة فارقة فى تاريخ النضال الفلسطينى ليغادر عالمنا بعد أن سطر ملحمة تاريخية خالدة من أجل دينه ووطنه وترك خلفه جيشاً من المبدعين فى المقاومة، إنه "يحيى عياش".. مؤسّس مدرسة الاستشهاديين وناقل المعركة إلى عقر دار الصهاينة. لم يكن "عياش" إنسانًا عادياً ولا شخصاً محدود القدرات والمواهب، بل كان رجلاً فذاً ومجاهداً متمرساً وقائداً صلباً، ولد فى قرية "رافات" بجنين عام 1966، حيث نشأ على دراسة العلوم الإسلامية وحفظ القرآن الكريم فى السادسة من عمره، وتفوق فى الشهادة الثانوية، مما دفعه لدراسة الهندسة الكهربائية فى جامعة "بيرزيت"، وبعد تخرجه حاول الحصول على تصريح خروج للسفر إلى الأردن لإتمام دراسته العليا، حيث رفضت السلطات الإسرائيلية طلبه، وقد عقب على ذلك (يعكوف بيرس) رئيس المخابرات آنذاك بالقول: "لو كنا نعلم أن (المهندس) سيفعل ما فعل لأعطيناه تصريحاً، بالإضافة إلى مليون دولار". لبى "عياش" دعوة الإخوان المسلمين وانضم للجماعة فى العام 1985، وحينما انفتح الأفق لحركة المقاومة الإسلامية حماس كانت هذه المجموعات فى طليعة السواعد الرامية خلال سنوات الانتفاضة الأولى، حيث انضم إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام لتصبح مهمته قيادة العمليات الاستشهادية للمرة الأولى من خلال إعداد السيارات المفخخة والعبوات شديدة الانفجار، ويصل مجموع ما قتل بيد (المهندس) وتلاميذه إلى ست وسبعين إسرائيليًا وجرح ما يزيد عن أربعمائة آخرين، وهذا رقم قياسى لم ينازعه فيه أحد. وطوال أربع سنوات من المطاردة عاشها "يحيى" بكل ما تحمل من تحدى وخطورة، جندت إسرائيل جميع أجهزة الدولة للبحث عنه فى كل مكان، فتم التنبيه على الأهالى للتحذير من مساعدته، إضافة إلى توزيع صوره على جميع عناصر الجيش الإسرائيلي، حتى بلغ الهوس الإسرائيلى ذروته حين صرح (رابين): "أخشى أن يكون جالساً بيننا فى الكنيست"، هذا الهوس لم يطل رابين، فحسب، بل غدا كابوساً يتسلل إلى مضاجع الصهاينة، فأكثر من 80% من سكانهم يخافون استخدام المواصلات العامة، واشتكى أكثر من عشرين ألف إسرائيلى من أمراض نفسية نتجت عن عمليات التفجير، ليعترف الجميع وعلى رأسهم رئيس وزراء إسرائيل بقوله: "لا شك أن (المهندس) يمتلك قدرات خارقة لا يملكها غيره، وأن استمرار وجوده طليقاً يمثل خطراً داهماً على أمن إسرائيل واستقرارها"، أما (موشيه شاحل) وزير الأمن الداخلى آنذاك فقال: "لا أستطيع أن أصف المهندس يحيى عياش إلا بالمعجزة، فدولة إسرائيل بكافة أجهزتها لا تستطيع أن تضع حلاً لتهديداته". وتأتى اللحظات الأخيرة فى حياة عياش بعدما علم جهاز الأمن الداخلى بمكانه فى غزة من خلال أحد العملاء والذى وضع له مادة متفجرة وصلت إلى 50 جم فى هاتف محمول، وتم تفجيره عن طريق طائرة كانت تحلق فى نفس الوقت، فتناثرت أشلاء عياش بعدما قطعت رقبته وتمزق نصف وجهه الأيمن حيث كان الهاتف. وما إن انتشر خبر استشهاد المهندس حتى سادت أنحاء فلسطين حالة من الغليان، وخرجت مئات الآلاف من الجماهير لوداعه، وأعلنت إسرائيل حالة الطوارئ، ولم تخفِ فرحتها العظمى بهذا الخبر، حيث صرح رئيس المخابرات بالقول: "موت عياش وضع حداً لأخطر وأعنف المحاربين الذين عرفناهم"، فيما صرح وزير الأمن الداخلى بالقول: "بتنا نتنفس بشكل أفضل بعد إعلان موته". ولم يكن بوسع كتائب القسام أن تترك هذا الامتهان الإسرائيلى دون رد، فبعد خمسين يوماً بالضبط من استشهاده بدأت سلسلة هجمات استشهادية سقط فيها ما يقرب من ستين قتيلاً إسرائيلياً عدا عشرات الجرحى، ليكون ذلك إيذاناً بمرحلة جديدة أصبح فيها الشعب الفلسطينى كله يحيى، وصار يحيى الشعب كله. يا سادة.. إن مثل هؤلاء الأبطال لا يموتون، ينتقلون من حياة إلى حياة، ومن دار إلى دار.. كما الطير يسرح فى فضاء لا حدود له، وما أحوجنا فى ظل المناخ المتأزم حاليا أن نتذكر "عياش"، وإخوانه فهم رجال عاشوا حياة مختلفة تستحق منا على الأقل أن نتذكرهم ونحتفى بهم.