إذا كان “آخرنا” يتوقف عند التنديد بالإرهاب واستمطار اللعنات على الإرهابيين ووصفهم بما يستحقون من مفردات الهجاء ومصطلحاته، فنحن لا ندفن رؤوسنا في الرمال فحسب، وإنما نصبح أيضاً بوقاً يردد خطاب الإدارة الأمريكية، الذي لا يريد أن يتقدم خطوة أبعد من ذلك، في حين أننا في اللحظة الراهنة أشد ما نكون حاجة إلى أن نختبر تلك المحاولة. (1) أدري أن أي كلام في الموضوع لن يؤخذ على محمل الجد، إلا إذا بدأ بالتنديد والإنكار، لتلك الجرائم الأخيرة التي وقعت في لندن وبغداد، لكن سؤالي هو: هل ينتهي الأمر عند هذا الحد أم لا؟ وهو سؤال ليس استفهامياً في حقيقة الأمر، وإنما هو إلى الاستنكار أقرب، لأنني لا أتصور أن نتعامل مع مشهد بتلك الخطورة، مستخدمين حناجرنا فقط، وملغين عقولنا أو مغلقينها. بكلام آخر، لا ريب أننا ينبغي أن نستهجن ونستهول ما جرى، ولكن يجب أيضاً أن نفكر فيه ونحاول أن نفهمه، بل أنني اذهب إلى أبعد من ذلك، داعياً إلى رد الاعتبار للسياسة في الموضوع، وان نخلصها من الاختطاف الذي مارسه بحقها الأصوليون المهووسون، سواء كانوا في واشنطن أم في تورا بورا. إن ثمة جهداً سياسياً وإعلامياً أمريكياً بالدرجة الأولى يسعى بمختلف السبل إلى تكثيف الضوء، وتوجيه كل الانتباه إلى الحوادث التي وقعت في لندن وبغداد، تحديداً تفجيرات العاصمة البريطانية واختطاف السفير المصري وقتله، ومن ثم صرف الانتباه عن الأجواء التي استدعت تلك الممارسات واستنبتتها، وهو سعي أريد به محاصرة الوعي العام وإشغاله بسؤال واحد هو: كيف يمكن القضاء على الإرهاب وملاحقته في مظانه؟ هذا “الملعوب” مورس في الحالة الفلسطينية، حيث نجح الإعلام “الإسرائيلي” والأمريكي تبعاً في اختزال المشهد الفلسطيني في العمليات الاستشهادية (التي يسمونها انتحارية)، حتى بات الواحد منا يبذل مجهوداً حين يلتقي من يقصده من الصحافيين والباحثين الغربيين، لإقناعهم بأن ثمة “قضية” في خلفية هذه الأحداث، وان العمليات الاستشهادية لم تظهر إلا في التسعينات، بعد حوالي نصف قرن من اغتصاب فلسطين. ومن ثم فإنها كانت رد فعل فرضته ضرورات الظرف التاريخي، ولم تكن فعلاً بادر إليه الفلسطينيون من جانبهم. أنبه إلى ضرورة التفرقة بين نبل الهدف الذي تسعى إليه عناصر المقاومة الفلسطينية حينما اضطرت للجوء إلى العمليات الاستشهادية، وبين الجرائم التي ترتكبها تلك المجموعات التي شوهت مفهوم الجهاد، من جراء الأخطاء الجسيمة التي ترتكبها في التحليل وفي اختيار الأهداف وفي الوسائل التي تلجأ إليها. وازعم بأن التشابه بين المشهدين قائم في الخلفية ليس أكثر. (2) تتسع الآن دائرة السياسيين والمعلقين الذين أصبحوا يقولون صراحة: ان الحملة الأمريكية العالمية ضد الإرهاب أدت إلى تعميمه وعولمته. وهو ما عبر عنه كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة حين قال: ان العالم الآن اصبح اقل أماناً من ذي قبل. والمعنى ذاته رددته كتابات بلا حصر في الصحف الأمريكية والبريطانية، الأمر الذي يحمل غلاة الإدارة الأمريكية قدراً من المسؤولية عن زيادة معدلات العمليات الإرهابية. وهي الحقيقة التي تصر واشنطن على إنكارها وإخفائها، عن طريق توجيه حملات دعائية مضادة تحاول إقناع الرأي العام الأمريكي بوجه أخص بأن “الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة”، وكان وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد قد أعلن ذلك صراحة قبل ثلاثة أسابيع. والأمر كذلك ينبغي إذا أردنا أن نتحرى خلفية المشهد الراهن أن نقر بثلاثة أمور هي: * ان الولاياتالمتحدة أعلنتها حرباً عالمية مفتوحة ضد الإرهاب، من دون أن تحدد لمعركتها مكاناً أو زماناً، وذهبت في ذلك إلى حد تبني سياسة “الضربات الاستباقية”، التي بمقتضاها سوّغت لنفسها قصف أي موقع في الكرة الأرضية بحجة إجهاض العمليات الإرهابية. حين فعلت الإدارة الأمريكية ذلك، فإنها وفرت للمجموعات الإرهابية والمتطرفة حجة للجوء إلى رد فعل على ذات المستوى. إذا طالما ان واشنطن أرادتها حرباً مفتوحة بلا قيد أو شرط، فان ذلك دفع تلك المجموعات إلى استباحة التصرف ضدها، هي وحلفائها، أيضاً من دون قيد أو شرط. * ان الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان حوّل البلدين إلى معامل لتفريخ الجماعات الإرهابية، وهو تفريخ أضافت إليه الممارسات الأمريكية بالغة القسوة والمهانة في أبوغريب وجوانتانامو، جرعات منشطة للغاية. ولا تنس في هذا السياق المساندة الأمريكية للعمليات الوحشية “الإسرائيلية” بحق الفلسطينيين، وأثرها في تعميق السخط والنقمة. * ان شدة تركيز السياسة الأمريكية على “القاعدة”، وتحميلها المسؤولية عن كل ما يحدث في الكرة الأرضية من عنف، مع التجاهل التام للأخطاء الفاحشة في السياسة الأمريكية، حولت “القاعدة” من تنظيم إلى منهج، كما قيل بحق. بمعنى أننا لا نتصور أن تنظيم “القاعدة” الذي تقوده مجموعة مختفية في كهوف أفغانستان، يملك تلك الأذرع المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، ولكن تنامي موجة العداء للسياسة الأمريكية في أنحاء العالم، من شأنه أن يشجع أي مجموعة رافضة لتلك السياسة على القيام بأعمال عنف ضد واشنطن وحلفائها، خصوصاً أن الوسائل اللازمة لذلك باتت ميسورة وموزعة بالمجان على الجميع عبر شبكة “الانترنت”. لقد أصبحت عبارة “فشل الحملة العالمية ضد الإرهاب” تتكرر كثيراً في كتابات ناقدي سياسة الرئيس بوش، بين الكتاب والسياسيين الأمريكيين أنفسهم، بل وبين بعض أعضاء الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه الرئيس الأمريكي. وهذه اللهجة تزايدت في الآونة الأخيرة، مع تزايد الهجمات في العراق، التي استصحبت ارتفاعاً في خسائر الأمريكيين، واستدعت ضخ مليارات جديدة للإنفاق العسكري، وأدت في النهاية إلى تراجع تأييد سياسة الرئيس بوش بين الأمريكيين، حيث وصلت نسبة معارضيه إلى 52%، وهي نسبة لم تتحقق خلال السنوات الثلاث الأخيرة. (3) حين هممت بكتابة هذه المقالة، سجلت في أوراقي التحضيرية الملاحظة التالية: هذه بدورها برقية لم ترسل من واشنطن. إذ لولا الملامة لبعث بها الرئيس بوش إلى أسامة بن لادن، يشكره فيها على جهود “رجاله” التي قوت من موقفه في مواجهة معارضيه بالكونجرس، وعززت من أهمية استمرار حملته ضد الإرهاب. ولربما خطر له ذلك، لكي يرد على برقية سابقة لم يرسلها بن لادن إلى الرئيس الأمريكي، لأنه بحربه تلك سوغ لبن لادن وجماعته أن يروجوا لمشروعهم وينشطوا خلاياهم في الخارج، بعدما كسدت سوقهم في أفغانستان. لست صاحب الفكرة في حقيقة الأمر، حيث جهدي لا يتجاوز صياغتها فقط، فقد سبقني في التعبير عنها الأستاذ منير شفيق، الكاتب والمحلل الاستراتيجي الفلسطيني. (4) في أوائل شهر يوليو/ تموز الحالي نشرت “صنداي تايمز” البريطانية خبراً عن اتصالات بدأت بين الأمريكيين وبين بعض عناصر المقاومة المسلحة في العراق. وهو خبر لم تنفه الإدارة الأمريكية، وأيده وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، بل ودخلت في تفاصيله الصحافة الأمريكية، التي فرق بعضها بين مقاومة تحريرية (وطنية) وأخرى جهادية (إسلامية)، وقالت إن التفاوض يجري مع الأولين دون الأخيرين. وبطبيعة الحال فإن الأمريكيين ما كان لهم أن يخوضوا في مغامرة من ذلك القبيل إلا تحت ضغط تزايد خسائرهم، وتراجع التأييد الشعبي لهم، وإدراكهم انهم خسروا الحرب في العراق من الناحية العملية، وان المأزق العراقي في سبيله إلى توريطهم في استعادة تجربتهم المرة في فيتنام. إذا صح خبر التفاوض، وأغلب الظن أنه صحيح رغم نفي السلطات العراقية له فإنه يغدو إيذانا بانتقال الأمريكيين من مرحلة العناد “التياسة” إلى مرحلة السياسة (في العراق فقط) وأياً كانت ملابسات الضرورة التي فرضت عليهم التخلي ولو مؤقتاً عن نهج “التياسة”، فالشاهد أن ما حصل من تفاوض أعاد الاعتبار للسياسة، ولو مؤقتاً. ------ صحيفة الاهرام المصرية في 12 -7 -2005