تتحدث المعارضة العلمانية فى مصر عن عدم وجود توافق عام حول مسودة الدستور الجديد الصادرة عن الجمعية التأسيسية، وتتعلل بأن سبب معارضتها لمشروع الدستور هو الحرص على التوافق العام، مع أن الواقع العملى فى تاريخ البشرية وفى مصر وغيرها من المجتمعات، يؤكد استحالة خلق توافق عام فى أى شىء. وإذا تغاضينا عن كون المنسحبون انسحبوا بعد مشاركتهم لمدة ستة أشهر، فى صياغة مواد مسودة الدستور، فإن كثرة الحديث عن ضرورة تحقيق "توافق عام"، يتعلق بالدستور، تعد نوعاً من التضليل أو التعتيم على الهدف الرئيسى لمعارضتهم، وهو كون الدستور، لم يخرج بالشكل العلمانى الذى أراده التيار العلمانى المصرى بجميع فصائله. إن فكرة التوافق العام على كل شىء ومنه الدستور، أسطورة من الأساطير السياسية الحديثة، لأن الطبيعة البشرية جلبت على الخلاف والاختلاف والتنوع فى الرؤى، بل فى كل شىء، والله تعالى والخالق العظيم، جعل أساس الكون والحياة قائمين على الخلاف والاختلاف والتضاد، يقول سبحانه وتعالى بقرآنه: "إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك ..إلخ الآية 163/البقرة ، و"إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب - أية 190/آل عمران"، و"إن فى اختلاف الليل والنهار..إلخ الآية 6/يونس"، و"وهو الذى يحى ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون – آية 80/المؤمنون"، و"واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء..إلخ الآية 5/الجاثية"، و" ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذلك لآيات للعالمين- آية 22/الروم،"، فالليل مخالف للنهار، والسموات تخالف الأرض، والحى يخالف الميت، والألسنة البشرية وألوانها وأعراقها تخالف بعضها البعض، والرجل مخالف للمرأة.. هى سُّنة إذن من سُّن الكون والخلق، الخلاف والتضاد. إن نظرة مدققة لمجريات المجتمعات الغربية، وهى الأكثر استقراراً وتنميةً وتقدمً وديمقراطيةً وثروةً، سنجد أن الخلاف فى الرأى بين الأحزاب والتيارات السياسية، هو القاعدة.. ولم يحدث يوماً أن سمعنا أو رأينا شيئًا يثبت وجود توافق عام فى هذه الدول والمجتمعات، حول القضايا العامة المثارة والمطروحة على المجتمع والرأى العام، وتعد نتائج الانتخابات العامة والبلدية والرئاسية فيها، أو التظاهر والاحتجاج على سياسات، الدليل العملى والواقعى على عدم وجود توافق عام فى أى مجتمع وحول أى قضية أو دعوة.. فهل يمكن القول - مثلاً- أن الرئيس باراك أوباما، نال توافقاً عاماً لدى الشعب الأمريكي، أو أن الرئيس الفرنسى فرنسوا أولاند، نال موافقة عموم الشعب الفرنسى؟! فى التعديلات الدستورية التى جرت بتركيا خلال السنوات العشر الماضية، كان الخلاف حولها على أشده بين التيارين العلمانى والمحافظ، ومن ثم، جاءت نتائج التصويت على استفتاءات التعديلات، بنسب بين 76 إلى 57%، مما يؤكد عدم وجود توافق عام، على تعديلات الدستور الكثيرة- عدة حزم بلغت نسبة 30% من مواد الدستور-، ومع هذا هى المطبقة اليوم على الجميع.. وفى عام 2006 فشل إحداث توافق ما على مسودة الدستور التى كتبها 6 من كبار أساتذة القانون الدستورى بتركيا، فجمد الأمر، لكى تقوم لجنة برلمانية مكونة من 12 عضوًا، فى عام 2012 بكتابة الدستور وسيعرض لاحقاً على البرلمان ومن بعده الرئيس ثم الاستفتاء الشعبي. لقد توصلت البشرية، بعد صراع دموى طويل، وويلات من الحروب والمنازعات فيما بين أفرادها إلى أن فهم كون الخلاف والاختلاف والتنوع، سُّنة قاهرة ومؤكدة، لا مناص ولا هروب منها، ومن هنا توجهت المجتمعات والدول، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، إلى فكرة تحكيم رأى الأغلبية كواقع لكى يمكن تسيير الأمور واستقرار شؤون الحياة والعباد.. حتى أن الغرب نفسه، هو صاحب فكرة الأغلبية بنسبة 50 + 1، وكذا، بنفس الطريقة، تؤخذ قرارات المجالس والمحاكم والشركات، لاستحالة تحقيق توافق تام فيما بين الناس. بناءً على ما سبق من أمثلة، يجب عدم التعويل كثيراً على مطلب التوافق العام والشامل، فى الجمعية التأسيسية أو الدستور أو حتى نتيجة الاستفتاء عليه، لأن التوافق العام أسطورة، يستحيل تحقيقها خاصة حين يتعلق الأمر بالعقول البشرية التى من سماتها الخلاف والاختلاف. والشىء الصحيح، لكى لا ندور فى دائرة مفرغة، وتتعرض البلاد وأحوال العباد للضرر، ولكى لا تتشكل بيئة مضطربة، تسمح للأعداء فى الداخل والخارج، بالعبث بمقدرات ومستقبل بلادنا، هو أن نبحث ونطلب واقعية، تستند على الأغلبية الممكنة من الشعب.