وزارة التموين توقع مذكرة تفاهم لإنشاء 5 صوامع جديدة لتخزين القمح بسعة 150 ألف طن    ترجيح إسرائيلي بالإدراج على قائمة الدول التي تقتل الأطفال    ديلي ميل تختار محمد صلاح أفضل لاعب فى الدوري الإنجليزي موسم 2023-24    الزمالك يجدد عقود 6 لاعبات من فريق الطائرة    ختام ورشة الإبداع في بيئة العمل والتحول الرقمي بالإسماعيلية (صور)    بمشاركة الأهلي.. فيفا يكشف نظام بطولة إنتركونتيننتال 2025    انطلاق حملة صكوك الأضاحي 2024 بالتقسيط في مطروح    عيد الأضحى 2024: فرحة التهاني وروعة البهجة في أجمل العبارات    هل يجوز الجمع بين صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وقضاء رمضان؟    القبض على «ٌقمر الوراق» بحوزتها 2.5 كيلو «حشيش» (التفاصيل الكاملة)    «المصري اليوم» تنفرد بنشر تفاصيل جناية جديدة ارتكبها عصام صاصا خلال مغادرته مصر    ما حكم الصلاة الفائتة بعد الإفاقة من البنج؟.. أمين الفتوى يجيب    محافظ أسوان يترأس اجتماع مجلس الصحة الإقليمي (تفاصيل)    ننشر أسماء المتقدمين للجنة القيد تحت التمرين في نقابة الصحفيين    بدء الاختبارات الشفوية الإلكترونية لطلاب شهادات القراءات بشمال سيناء    ضبط شخص يدير صفحة عبر "فسيبوك" للنصب على أهالي كفر الشيخ    لاعب أرسنال: الأعين كلها نحو رفح    إصابة جندي بولندي في عملية طعن على يد مهاجر غير شرعي    بعد قليل.. مؤتمر صحفي للكشف عن تفاصيل مشروع رقمنة ذكريات الفنانين بالذكاء الاصطناعي    تعرف علي الحكاية الكاملة لفيلم ولاد رزق    رسميًا.. طرح شيري تيجو 4 برو بشعار "صنع في مصر" (أسعار ومواصفات)    "هيئة الدواء" توقع مذكرة تفاهم مع "مركز مراقبة الدولة للأدوية" بكوبا لتبادل الخبرات    متى يلزم الكفارة على الكذب؟.. أمين الفتوى بدار الإفتاء يوضح    بسبب نادي نيس.. مانشستر يونايتد قد يشارك في دوري المؤتمر الأوروبي    برلمان جورجيا يمرر قانون التمويل الخارجى للمنظمات غير الحكومية المثير للجدل رغم الاحتجاجات    كشف ملابسات سرقة سائق بإحدى شركات تطبيقات النقل الذكي حقيبة سيدة    محافظ الإسماعيلية يشيد بدور مجلس الدولة في فض المنازعات وصياغة القوانين    تعرف علي مناطق ومواعيد قطع المياه غدا الاربعاء بمركز طلخا في الدقهلية    روسيا تطور قمرا جديدا للاتصالات    عضو تنسيقية تقدُّم: إعلان مجلس السيادة السوداني عن حكومة كفاءات وشيكة تهديدٌ للقوى المدنية    من أفضل 10 فرق.. جامعة الجلالة تصل لتصفيات «الابتكار وريادة الأعمال» إفريقيا (تفاصيل)    جمال رائف: الحوار الوطني يؤكد حرص الدولة على تكوين دوائر عمل سياسية واقتصادية    رئيس جامعة بني سويف يشهد الاحتفال بيوم الطبيب    رئيس الوزراء يتابع جاهزية المتحف المصري الكبير وتطوير المناطق المحيطة    اشترِ بنفسك.. رئيس "الأمراض البيطرية" يوضح طرق فحص الأضحية ويحذر من هذا الحيوان    شروط ومواعيد التحويلات بين المدارس 2025 - الموعد والضوابط    القبض على المتهم بقتل صديقه في مشاجرة بقليوب    طريقة عمل شاورما الفراخ بأقل التكاليف    محافظ مطروح يشهد ختام الدورة التدريبية للعاملين بإدارات الشئون القانونية    موعد إجازة عيد الأضحى المبارك 2024.. تصل إلى 9 أيام متصلة (تفاصيل)    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية البراجيل في ملوي غدًا    بشرى للمواطنين.. تفاصيل حالة الطقس ودرجات الحرارة حتى نهاية الأسبوع    خلال زيارته للمحافظة.. محافظ جنوب سيناء يقدم طلبا لوفد لجنة الصحة بمجلس النواب    تفاصيل الساعات الأخيرة في حياة فؤاد شرف الدين.. «كان يقاوم الألم»    إسرائيل تعتقل 22 فلسطينيا من الضفة.. وارتفاع الحصيلة إلى 8910 منذ 7 أكتوبر    محافظ الجيزة: تطوير وتوسعة ورصف طريق الطرفاية البطئ    عمرو الفقي يهنئ «أون تايم سبورت» بفوز «ملعب أون» بجائزة أفضل برنامج رياضي عربي    "الإنجازات تلاحقني".. تعليق مثير من رونالدو بعد خطف لقب الهداف التاريخي لروشن    وزيرة الهجرة تلتقي أحد رموز الجالية المصرية في سويسرا للاستماع لأفكاره    مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية يوضح فضل حج بيت الله الحرام    توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 28 مايو 2024.. مكاسب مالية ل«العذراء» ونصيحة مهمة ل«الميزان»    «حياة كريمة» تطلق مبادرة «تقدر في 10 أيام» لدعم طلاب الثانوية العامة بكفر الشيخ    معهد صحة الحيوان يعلن تجديد اعتماد مركز تدريبه دوليا    مصرع شخص صعقا بالكهرباء داخل منزله بقرية شنبارة فى الشرقية    كارول سماحة تعلق على مجزرة رفح: «قلبي اتحرق»    دويدار: الجزيري أفضل من وسام أبو علي... وأتوقع فوز الزمالك على الأهلي في السوبر الإفريقي    حمدي فتحي: أتمنى انضمام زيزو لصفوف الأهلي وعودة رمضان صبحي    عضو مجلس الزمالك: إمام عاشور تمنى العودة لنا قبل الانضمام ل الأهلي.. ولكن!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. محمد محفوظ : جمهورية مصر الإسلامية
نشر في البديل يوم 06 - 12 - 2011


الشعوب تثور مرة .. وتخضع آلاف المرات
[ قول مأثور ]
يثبت الواقع بأن الاستبداد لا يشوه فقط المؤسسات السياسية والبنية الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية ؛ وإنما يشوه أيضاً قدرة الشعوب على الإدراك السليم . ولذلك فإن حصن الأمان لأى أمة قام شعبها بثورة ؛ يتمثل فى أن يصل إلى السلطة أشد أطياف هذه الثورة إيماناً بالحرية وقيمها ومبادئها ؛ فيتم ترسيخ هذه القيم والمبادئ فى المجتمع بما يسمح بتوسيع خبرة الناس بممارسات التعددية والتسامح وإدارة الاختلاف ؛ ومن ثم تنزوى الأفكارالمتطرفة والجماعات المتشددة لتنحصر فقط فى مساحتها الطبيعية الضيقة فى أى مجتمع متقدم ومتحضر .
ولكن عندما تصل التيارات المتشددة إلى الحكم عقب أى ثورة شعبية فإن هذا يكون نذير خطر ؛ لأن التشويه الذى ترسخ نتيجة طول عهود القهر داخل عقول الناس فأفقدهم القدرة على الادراك السليم ؛ يؤدى إلى سهولة تضليل الجماهير وتزييف وعيها بما يسمح بإعادة إنتاج الاستبداد ولكن بشعارات ومرجعيات أخرى .
وربما لا يثير القلق وصول أى جماعة من المتشددين إلى السلطة أو مشاركتهم فيها فى أى مجتمع متقدم ؛ نظراً لأن ترسخ مناخ الحرية والتعددية يكون هو الضامن لعدم انقلاب تلك الجماعة على الديمقراطية . ولكن الأمر يختلف فى المجتمعات التى عانت من نظم القهر والاستبداد لعقود طويلة ؛ لأن احتمالات انقلاب المتشددين على الديمقراطية للانفراد بالحكم دون شريك تكون كبيرة ومنذرة بإنتاج حقبة جديدة من الاستبداد قد تمتد لعدة عقود .
لذلك يبدو تصويت المصريين للتيارات الدينية المتأسلمة فى الانتخابات ؛ بمثابة النموذج الأمثل لمدى التشويه الذى يطال وعى الشعوب عندما ترزح لسنوات تحت حكم القهر والاستبداد ؛ فتكون المراهقة السياسية هى العنوان لتوجهات غالبية المجتمع ؛ بما يتشابه مع ذات ممارسات المراهقة باعتبارها مرحلة عمرية يتم التعامل خلالها مع الأمور اعتماداً على معايير شكلية مع اهمال تام لأية معايير موضوعية ؛ نتيجة قلة الخبرة وضحالة التجربة ؛ مما يجعل احتمالات الخطأ أكبر دائماً من الصواب .
ومن المحزن ؛ أن المرتين اللتين أتيح فيهما للمصريين التصويت عقب الثورة ؛ فأنهم قاموا للأسف بالتصويت ضد الثورة ؟ وليست هذه فزورة ؛ فقد كان تصويت المصريين ب : نعم ؛ فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية التى تجعل الانتخابات قبل الدستور ؛ بمثابة الضربة الأولى الموجعة للثورة ؛ حيث تأجلت إمكانية صياغة الثورة لدستورها فى ظل الزخم الثورى ؛ وبدلاً من التوحد لصهر خلاصة القيم التى أفرزتها الثورة فى دستور جديد ؛ انقلبت الآية وتفرقت التيارات السياسية استعداداً لانتخابات محورها هو التنافس والمزايدة ؛ ومن ثم ظهرت الشروخ حتى داخل التيارات التى تنتمى لمرجعية واحدة .
ثم كانت الضربة الموجعة الثانية ؛ عندما قام المصريون بالتصويت فى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية للتيارات الدينية المتشددة ؛ بما يعنى وضع المجتمع المصرى على أجندة التشدد الدينى ؛ وكأن كل مشاكل المجتمع المصرى تتلخص فى مشكلة غياب مظاهر التدين ؛ فكان التصويت للمتشددين لكى ينشروا مظاهر التدين فى المجتمع . وذلك على الرغم من أن إحدى سلبيات المجتمع المصرى المزمنة هى التدين الشكلى والتواكل وقصر الدين على الشعائر دون المعاملات ؛ وهى نفسها ذات السلبيات المزمنة التى تعانى منها التيارات المتشددة .
ولعل خطورة استحواذ المتشددين على السلطة فى المجتمع المصرى فى هذا التوقيت عقب الثورة ؛ تتمثل فى أن هذا هو التوقيت الخطأ والمبكر لوصولهم إلى السلطة ؛ وخصوصاً فى ظل أرض سياسية جرداء من الدستور وتفتقر إلى الوعى السياسى لدى الجماهير ؛ ومن ثم يصبح انقلابهم على الديمقراطية أحد المخاطر المطروحة بشدة إلى أن يثبت العكس .
لذلك على الشعب المصرى الذى مازالت أمامه مرحلة ثانية وثالثة للتصويت فى الانتخابات ؛ أن يعلم أن الثمن المترتب على وضع المتشددين على كراسى السلطة هو ثمن فادح ؛ سيدفعه هذا الشعب دماً وألماً وقهراً وحزناً . وذلك لأن التشدد لا يصنع تنمية ولا يؤسس حضارة ؛ وإنما يقود أى مجتمع إلى مجموعة من المواجهات العبثية التى تفضى بدورها إلى سلسلة من الأزمات الطاحنة التى تأكل الأخضر واليابس وتحصد الأنفس والأموال . ولعل أسباب ذلك واضحة وظاهرة ويمكن استقائها من : الواقع المعاش .. ومن التاريخ المعروف .. ومن المنطق المعقول .
فالواقع المعاش ؛ يثبت أن التيارات الدينية المتشددة تقوم على مبدأ تنظيمى هام هو : مبدأ السمع والطاعة ؛ ومنظمات السمع والطاعة لا يمكن أن تكون منظمات سياسية ؛ لأن العمل السياسى يقوم على التفاوض والتحاور والنقاش المستمر والقدرة على إدارة الاختلاف للخروج بموقف يعبر عن إرادة الغالبية وليس تسلط القيادة أوالأقلية . وبالتالى فإن وصول المنظمات المتشددة إلى السلطة يعنى أنها تصل إليها وهى تحمل معها نفس مناهجها وأساليبها فى العمل التى تقوم على الاقصاء للرأى الآخر ؛ واعتبار الاختلاف تمرد والحوار مضيعة للوقت وإدارة الاختلاف فتنة .
أما التاريخ المعروف ؛ فيثبت أن دولة الخلافة الإسلامية منذ الدولة الأموية مروراً بالدولة العباسية وانتهاءً بالدولة العثمانية ؛ كانت دولة لا تختلف عن باقى الممالك والإمبراطوريات التى سبقتها والتى عاصرتها ؛ ولم تحقق تلك الدولة أى نظام للحكم يضمن تحقيق العدالة والحرية والمساواة . فلم يتم إنشاء أى نظام يضمن عدالة القضاء واستقلاليته عن السلطة الحاكمة ؛ وإنما كان القضاء يستمد عدالته من شخص القاضى لو كان عادلاً ؛ ويستمد استقلاليته من شخص الخليفة لو كان متساهلاً . أما الحرية فقد كانت مكفولة فيما لا يتعلق بالاقتراب من نقد الخلافة أو رجال الحكم ؛ ومن ثم فلا رقابة ناجزة على ممارسات السلطة الحاكمة . بينما المساواة كانت مساواة فى الفقر الذى كانت تعيش فيه غالبية الرعية ؛ بينما ترفل القلة الملتفة حول الخليفة ورجال الدولة فى النعيم والبذخ .
أما المنطق المعقول ؛ فهو يثبت أن الجماعات الدينية المتشددة تفشل دائماً فى إدارة المجتمعات؛ وذلك لسببين رئيسيين :
السبب الأول : أن تلك الجماعات لا تمتلك فهماً واضحاً حول الطبيعة البشرية الفطرية للإنسان ؛ بحيث تتعامل مع الإنسان بعيداً عن تلك الطبيعة الفطرية التى أودعها الله فيه . وبالتالى تطمح تلك الجماعات إلى فرض كتالوج لا ينبغى للإنسان الخروج عليه ؛ بحيث يتحول المجتمع الإنسانى إلى ما يشبه مجتمعات النمل والنحل ؛ التى تتميز بالانضباط الناتج عن الغريزة الفطرية وليس العقل الواعى ؛ وذلك فى تجاهل تام لحقيقة الحرية التى فطرها الله فى الإنسان مصداقاً لقوله تعالى : ونفس وما سواها ؛ فألهمها فجورها وتقواها ؛ قد أفلح من زكاها ؛ وقد خاب من دساها [ سورة الشمس 7 / 10 ] . فمعنى إلهام الفجور والتقوى هو القدرة على الاختيار ما بين الخير والشر ؛ بما يعنى حرية الاختيار . ومن ثم لا مجال فى عالم البشر للانضباط الغريزى اللاواعى لمجتمعات الحشرات ؛ وإنما هى حرية واعية ترتفع بقامة الإنسان لو أفلح إلى عنان السماء ؛ وتهبط به الى حضيض الارض لو خاب . وتلك الحرية الواعية تقتضى فى أغلب أحوالها التذكير وليس الإجبار والتسلط والفرض ؛ مصداقاً لقوله تعالى : فذكر إنما أنت مذكر ؛ لست عليهم بمصيطر [ الغاشية 22 ] . وبالتالى يبدو إخفاق المتشددين دينياً فى فهم الطبيعة البشرية الفطرية للإنسان وكأنه تحدى صارخ لمراد الله فى الأرض بأن الناس ولدوا لكى يكونوا أحراراً . فالذين يتحدثون باسم الله من المتشددين هم فى الحقيقة أول المتمردين على منهج الله وسنته وفطرته فى خلقه . المجتمع الإيرانى والأفغانى والصومالى وهيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى المجتمع السعودى ؛ كلها أمثلة فازعة صارخة بسوء المآل الذى يقود إليه المتشددون لو امتلكوا السلطة وأمسكوا بالزمام .
السبب الثانى : أن تلك الجماعات لا تمتلك فهماً راجحاً عن دور الدين فى المجتمع بما يصل بها إلى درجة عدم الفهم لهذا الدور . فالدين يشرع للعباد مجموعة من الأحكام التى يتعرض مخالفوها للعقاب فى الآخرة ؛ ولكن بعض هذه الأحكام شرع الله لمخالفوها عقاباً دنيوياً بالإضافة إلى عقاب الآخرة ؛ بينما البعض الآخر من الأحكام وهى الأغلب اقتصرت عقوبات مخالفتها على الآخرة دون الدنيا ؛ بما يعنى أنه لا يجوز استباق إرادة الله ورحمته وتشريع عقوبات دنيوية للأحكام التى قصر الله الحساب عليها فى الاخرة . ولكن الجماعات المتشددة تخالف ذلك وتوسع دائرة الملاحقة الدنيوية للمخالفين لأحكام الله ذات العقوبات الأخروية ؛ بما يعنى عدم الامتثال لإرادة الله التى اقتضت تأخيراً للعقاب لحكمة إلهية مفادها ؛ أولاً : أن تظل الارض نقيض الجنة مسكونة بالطاعة والعصيان معاً ؛ وثانياً : أن الله تعالى يمهل الإنسان فى الدنيا ليفتح أمامه الطريق للتراجع عن العصيان وللتذكير دائماً بأن رحمته سبحانه تسبق عقابه؛ وثالثاً : أن تكون أحكام الله هى القيود الحكيمة التى تجعل الناس أحراراً ؛ وتستمد هذه القيود حكمتها من أنها رغم أن الله شرعها لتجعل الناس عباداً فى طاعته ؛ إلا أنها تكفل لهم أن يكونوا أحراراً فى التزام تلك الطاعة .
لذلك لم يشرع الله عقوبات دنيوية للمخالفين لكل أحكامه ؛ وإنما اقتضت حكمته تأجيل عقوبات مخالفة بعض الأحكام إلى الآخرة ؛ بما يعنى أن الإصرار على الملاحقة الدنيوية لعقاب المخالفين للأحكام التى قصر الله عقوبتها على الآخرة ؛ هو تمرد على مراد الله وعدم استيعاب لحكمته سبحانه . لأن الحالة الوحيدة التى يجوز فيها للجماعة البشرية أن تشرع عقوبات دنيوية للأحكام ذات العقوبات الأخروية تبرز عندما يؤدى الخروج عن أحكام الله إلى إلحاق ضرر بالغ بالمجتمع ؛ عندئذ يمكن التدخل لتشريع عقوبات دنيوية . ولكن الطرف الذى يكون له الحق فى تشريع هذه العقوبات يكون هو الأصيل وليس الوكيل ؛ فلا يجوز لأعضاء البرلمان باعتبارهم ممثلين منتخبين عن الشعب تشريع عقوبات دنيوية لأحكام دينية عقوبتها أخروية . وإنما الذى يشرع ذلك هو أغلبية الشعب من خلال استفتاء عام ؛ فأمور الدين التى ستنعكس آثارها على الدنيا لا يجوز تركها للقلة مهما كان تأهيلها العلمى أو الفقهى ؛ وإنما يتم الرجوع فيها إلى الأصيل الذى هو الشعب دون سواه ؛ مصداقاً لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول [ سورة النساء 59 ] . فالله سبحانه وتعالى أخرج أولى الأمر من دائرة الطاعة بمجرد التنازع على أمر ما وقصرها على الله ورسوله ؛ وخاطب الجماعة بلفظ : فردوه ؛ بما يعنى أن الجماعة هى التى ترد الأمر المتنازع عليه وليس أولى الأمر إلى الله والرسول لتستنبط الحكم . وبالتالى ليس من حق أى أغلبية برلمانية أن تبتدع أحكاماً لم ينص عليها الله فى كتابه ؛ وتستند فى هذه الأحكام إلى السنة ظنية الثبوت غير المتواترة فعلاً وعملاً ؛ أو آراء الفقهاء المتعارضة ؛ لأن هذا هو المثال الصريح للتنازع . وإنما يظل الأمر معقوداُ للجماهير فى استفتاء عام تقرر فيه ما تراه صالحاً لمكان ما وزمان ما ؛ انطلاقاً من أن أحكام الدين ليست أوامر قهرية خالية من أى منطق أو حكمة أو مصلحة ؛ مصداقاً لقوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ سورة الأعراف 199 ] .
وأخيراً .. لماذا الخوف على المجتمع المصرى من التشدد ؟
فى تقديرى أن الخوف منبعه أن التشدد يعنى الغلو سواء فى التخلى عن الشئ أو التحلى به ؛ وبالتالى مثلما يقدم أهل المعصية صورة للخروج عن المنهج الإلهى ؛ يقدم أهل التشدد ذات الصورة ولكن على الطرف الآخر للغلو . فإن كان الغلو يشير عند أهل المعصية إلى التفريط ؛ فإنه يشير عند أهل التشدد إلى التزيد . وتثبت خبرة التاريخ بأن المجتمعات قد تحتمل التفريط أكثر من احتمالها للتزيد ؛ لأن الحرية تصحح نفسها لكونها تسمح بأن تظل قنوات المجتمع مفتوحة ؛ بما يتيح دائماً إمكانية للتنفيس ؛ بينما التزيد الناشئ عن التشدد يؤدى إلى انسداد قنوات المجتمع بما يؤدى فى النهاية إلى الانفجار . وتوضح الدراسات السيكولجية أن قدرة الإنسان على تحمل الإفراط أكثر من قدرته على تحمل الكبت ؛ ولننظر إلى الصراع بين المعسكرين الشيوعى والرأسمالى الذى انتهى بانتصار مثال الحرية الذى تمثله الكتلة الغربية ؛ وهزيمة مثال الكبت والقمع الذى تمثله الكتلة الشرقية . ولننظر إلى المجتمع السعودى الذى يلتزم بتعاليم متشددة فى انتقاب النساء ومنعهن من قيادة السيارات وملاحقة المفطرين فى نهار رمضان والمتخلفين عن إقامة الصلاة .. الخ ؛ وسنرى أن هذا المجتمع بموارده البترولية الضخمة بما يجعله يمتلك من وجهة نظر المتشددين الأخلاق والثروة ؛ سنرى أن هذا المجتمع ليس له أى نصيب فى منجزات الحضارة الإنسانية الراهنة ؛ فهو مجتمع مستهلك وغير منتج إلا للبترول الذى هو مجرد نعمة جيولوجية ؛ ولم يقدم أى منفعة علمية أو سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية لرصيد البشرية مثلما قدم ويقدم علماء الغرب الذين يصفهم المتشددون بالكفر . بل على العكس خرج من بين ضلوع هذا المجتمع تنظيم القاعدة الإرهابى الذى قدم المثال المريع لكيفية التوظيف الإجرامى للدين للتجرأ على الحياة الإنسانية وحرمة الدم الإنسانى ؛ وما تعانى منه الصومال وأفغانستان والعراق هو نتيجة فادحة لوجود ذلك التنظيم داخل تلك البلاد.
وربما يرد البعض ؛ بأن الشعب المصرى لم يصوت للتشدد ؛ وإنما قام بالتصويت للتدين لثقته بأن المتدينين أقدر على الإصلاح فى الأرض ومواجهة الفساد ؛ ومن ثم ستحل على المجتمع بركة الله جزاءً لاستقامتهم وصلاحهم . ولكن هذا القول مردود عليه بأن التدين بلا شك هو أفضل مقياس لصلاح الانسان ؛ ولكن المنطق يقرر بأن التدين الحقيقى هو الذى يتزاوج فيه التدين الظاهرى مع الاستقامة الداخلية ؛ بينما الواقع يقرر بأنه لا توجد علاقة تلازمية بين التدين الظاهرى والاستقامة الداخلية ؛ فمكنون الصدور لا يعلمه إلا الله ؛ مصداقاً لقوله تعالى : يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور [ سورة غافر 19 ] . ومصداقاً لقوله تعالى : يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم والله أعلم بما يكتمون [ سورة آل عمران 167 ] . وحتى الرسول عليه الصلاة والسلام كان لا يمتلك اليقين على أن التدين الظاهرى يمثل دليلاً على الاستقامة الداخلية مصداقاً لقوله تعالى : وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم [ التوبة 101 ] ؛ فحتى الرسول المؤيد برسالة السماء لم يستطع كشف التدين من النفاق .
وبالتالى ؛ فإن اتخاذ التدين الظاهرى كمعيار للقدرة على الإنجاز السياسى هو أمر يدخل فى خانة المراهقة السياسية . لأن الاختيار السياسى ينبغى أن ينحاز إلى الكفاءة والبرامج الواقعية العملية القابلة للتنفيذ ؛ والقادرة على التغيير فى أرض الواقع المادى ؛ وليس الشعارات الوهمية التى سقطت ومازالت تسقط فى كل البلاد التى انخدعت بها كالصومال وأفغانستان وإيران . ولعل التجربة التركية التى قال رئيس وزراءها بأنه : رئيس وزراء مسلم لدولة علمانية ؛ هى نموذج ينبغى القياس عليه لمعرفة مدى اقتراب الأحزاب ذات المرجعية الدينية فى مصر من التشدد أو الانفتاح ؛ ومن ثم القدرة على التنمية أم التردى فى المهالك والأزمات .
وبالتالى ؛ على المصريين أن يتعلموا من دروس المجتمعات التى انكوت بنار التشدد وأصبحت مجتمعات خراب ونزوح . ويتعلموا من دروس المجتمعات التى أفاء الله عليها من فضله ولكنها تختنق بقيود التشدد وتبدد ثرواتها بمظاهر البذخ بينما تعجز عن المشاركة ولو بإبرة فى الحضارة الانسانية . ويتعلموا من المجتمعات التى اعترفت بحرية الإنسان التى كتبها له الله ؛ فاستطاعت أن تستخرج من الإنسان أفضل ما فيه لعمارة الارض وإصلاحها .
قد تكون الانتخابات نجحت بمعيار الصندوق الانتخابى ؛ ولكنها فشلت بمعيار البناء الديمقراطى؛ لأن التشدد عندما يصل إلى السلطة على بساط الديمقراطية يسارع بطى البساط وتخزينه فى حجرة الفئران كى لا يسير عليه أحد من بعده .
على المصريين أن يصححوا اختياراتهم قبل فوات الأوان ؛ لأنه لو فات ؛ فلن يجدى وقتها الندم؛ مصداقاً لقوله تعالى : يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ سورة الفجر 23 ] .
دكتور/ محمد محفوظ
[email protected]
ت : 01227508604


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.