قبل أيام من فتح باب الترشيح لانتخابات الرئاسة في مصر، التقيت بأحد الأصدقاء من قيادات المعارضة، وثار سؤال: لماذا لا تتفق أحزاب المعارضة على مرشح واحد تخوض به معركة محتومة، وتطرح فيها مطالبها، وتعيد تنظيم الشارع السياسي بصورة إيجابية؟. وكان الرد: وكيف تتفق هذه الأحزاب على مرشح واحد؟ وباستفاضة شرح الصديق أن العلاقة بين الأحزاب الثلاثة الرئيسية (الوفد والتجمع والناصري) لم تصل إلى المرحلة التي تسمح بالاتفاق على مرشح واحد، ثم وهذا هو الأهم الاصطفاف وراءه وخوض المعركة بجدية من أجل إنجاحه. ظروف العلاقات بين الأحزاب الثلاثة لم تنضج لهذا الحد، والخلافات داخل كل حزب كانت تدور حول المشاركة في الانتخابات أو المقاطعة، فما بالك بأن يشارك الحزب وعن طريق قيادة حزب آخر سينافسه في انتخابات برلمانية بعد بضعة شهور؟وخلال الأيام الماضية تطورت الأمور بسرعة. حزب التجمع تراجع عن فكرة ترشيح زعيمه خالد محيي الدين وقرر المقاطعة، والحزب الناصري حسم أمره وقرر المقاطعة بدوره، ثم فاجأ الوفد الجميع حين قررت هيئته العليا ترشيح رئيس الحزب الدكتور نعمان جمعة ليقلب كل الموازين وليضع الجميع في وضع يستدعي مراجعة الحسابات وإعادة تقدير المواقف.الحزب الوطني الحاكم من جانبه كان أسعد الأطراف بخطوة رئيس الوفد، لأنها أضفت على انتخابات الرئاسة جدية كانت تفتقدها، ولأنها تضع في مواجهة الرئيس مبارك منافساً له وزنه يرأس حزباً له تاريخه وتواجده في الشارع السياسي.على الطرف الآخر كان موقف قوى الرفض التي تمتد إلى الإخوان المسلمين حتى حركة «كفاية» وغيرها من القوى التي دعت إلى مقاطعة الانتخابات التي تجرى بموجب تعديل دستوري جعل مشاركة المستقلين شيئاً من المستحيلات. وهذه القوى فوجئت بموقف الوفد ورفضته ومضت في دعوتها لأنصارها لعدم المشاركة في التصويت والطعن في شرعية الانتخابات من أساسها.ولكن ماذا عن موقف الطرفين الآخرين في التحالف الثلاثي بين أحزاب المعارضة الرسمية الرئيسية؟ حزب التجمع رغم انقسام الآراء داخله تعامل مع الموقف بإيجابية، وسارع رئيسه الدكتور رفعت السعيد إلى التأكيد على أن اختلاف المواقف لا يؤثر على العلاقة القوية بين حزبي التجمع والوفد وأن الحزبين سيظلان حليفين، ومؤكداً أن حزب التجمع قد قاطع الترشيح، ولكن لم يقاطع الانتخابات وأنه سيحدد موقفه في اجتماع يعقد غداً «الاثنين» ليحسم ذلك في ضوء ما هو معروف عن أن الحزب لن يؤيد مرشح الحزب الوطني (الرئيس مبارك) الذي يعارض سياساته منذ ربع قرن. والسؤال: هل يعلن الحزب تأييده للدكتور نعمان جمعة، أم يترك الأمر للاختيار الحر لأعضائه دون التزام بقرار حزبي، أم يدعو لعدم المشاركة في الانتخابات؟! الطرف الثالث في التحالف وهو الحزب الناصري فوجئ تماماً بترشيح الدكتور نعمان جمعة. المرجح أن يستمر على موقفه من إدانة الانتخابات وعدم المشاركة فيها بالتصويت بعد أن قاطعها من حيث الترشيح. ولكن هل سيتم ذلك بالصورة التي تحمل الإدانة لحزب الوفد وتسير بالأمور إلى إنهاء التنسيق أو التحالف معه، أم ستتم بالصورة التي تبرز الخلاف في المواقف ولا تقطع الخيوط بين الأحزاب الثلاثة التي مازالت تحتاج لعمل كبير حتى تصل إلى تحالف حقيقي، هذا هو السؤال الذي يواجه الحزب، ولن تتأخر بالطبع إجابته.. فالمعركة بدأت، والانتخابات بعد شهر واحد. إن القضية أكبر من معركة رئاسية محسومة سلفاً في ظل المعطيات الراهنة. إن القضية تتعلق بمستقبل العملية السياسية ومصير الإصلاح المطلوب والذي لم يعد مجرد خطوة مطلوبة على طريق صحيح، ولكنه أصبح ضرورة حياة لهذا الوطن إذا أراد أن يكون له مكان تحت الشمس وإذا كان له أن يؤدي دوره الذي لا تكون معه مصر هي مصر إلا إذا قامت به كقاطرة للديمقراطية والعدالة والوحدة في العالم العربي. إن العلاقة بين الأحزاب الثلاثة وما تمثله من قيادات فاعلة في المجتمع مرت بمراحل عديدة من الصعود والهبوط، وشهدت محاولات عديدة للتنسيق على مدى سنوات طويلة شارك في بعضها أطراف سياسية أخرى سواء منها الأحزاب الرسمية أو القيادات السياسية المحجوب عنها الشرعية القانونية. ولم تكن نهاية هذه المحاولات إيجابية على الدوام، واصطدمت محاولات التنسيق بين القوى الثلاث بعدة عوامل في مقدمتها. إن محاولات التنسيق تجرى بين أطراف يضعف تواجدها في الشارع السياسي بحكم الحصار المفروض عليها، وبحكم وضع السلطة التنفيذية للدولة في صف الحزب الحاكم، وبحكم الغياب عن الإعلام الرسمي، وبحكم السيطرة الحكومية لسنوات على العملية الانتخابية وانعكاس ذلك على تكوين البرلمان. والنتيجة أن محاولات التنسيق كانت محاولات بين أطراف ضعيفة التمثيل في البرلمان، بعيدة عن التواجد الفعال في الشارع السياسي، يبحث كل منها عن فرصة في السياق على حصة صغيرة هي كل المسموح به للمعارضة في ظل الأوضاع السابقة. إن محاولات كانت تجرى في ظل ثأر تاريخي تصادم فيه الوفد مع ثورة يوليو. وتصادم فيه الشيوعيون مع القوميين، واشتبك فيه اليسار مع اليمين، وتعاقبت فيه الأحداث داخل مصر وفي المنطقة العربية لتزرع الانقسامات حتى داخل صفوف كل تيار سياسي منقسمة إلى شظايا متصارعة. إن محاولات التنسيق جرت وسط مناخ من الجمود سيطر على الحياة السياسية ولم تنجح فيه أحزاب المعارضة. ووسط هذا الجمود كان طبيعياً أن يكون الحوار في جزء كبير منه وهو تكرار الرؤى نفسها وبين الأشخاص نفسهم.. حتى لو تغيرت الظروف في أحيان كثيرة أن تختلف المواقف. الآن، يتغير المشهد بأكمله، وتشهد الساحة حراكاً سياسياً واجتماعياً لم تشهده منذ زمن طويل. وبقدر الآمال المطروحة فإن المخاوف كبيرة.. فهناك قوى تتصارع داخل السلطة، وبعضها يتشبث بإبقاء الأوضاع على ما هي عليه مهما كان الثمن الذي يدفعه الوطن. أحزاب سياسية تعاني من آثار سنوات طويلة من الحصار ومن الجمود. وهناك شارع سياسي يموج بالحركة، وهناك أجيال جديدة تدخل الساحة السياسية بقوة سواء داخل الأحزاب والتنظيمات القائمة أو خارجها. وهناك ظروف داخلية اقتصادية واجتماعية ضاغطة، وهناك أطراف خارجية بعضها لا يخفي أن خلق حالة الفوضى (التي يرى في أنها بناءة) قد تكون هي طريقة للسيطرة على الموقف. وهناك إرهاب يضرب ويفرض على الجميع توحيد الصفوف في مواجهته، وهناك فساد مستعد لأن يتحالف مع إرهاب الداخل والخارج من أجل أن يسرق المستقبل ويدمر كل فرص الإصلاح الحقيقي. وفي ظل هذه الظروف يبدو الحفاظ على درجة من التنسيق بين الأطراف الثلاثة أمراً ضرورياً، بل ويظل العمل على تطوير هذا التنسيق إلى تحالف حقيقي فاعل أحد الأهداف التي ينبغي الحرص عليها إذا أردنا عبوراً آمناً من هذه الأوضاع الخطيرة التي نعايشها الآن إلى مستقبل يتأسس على ديمقراطية حقيقية تقوم على تعقد اجتماعي جديد تحتاجه مصر وتتهيأ له بالفعل. إن هذا العقد الاجتماعي لا يمكن أن يتأسس من فراغ. إنه يحتاج إلى مصالحة تاريخية بين ثورتي 19 و52. ويحتاج إلى عبور الثأر التاريخي بين تيارات تصارعت واصطدمت في ظروف بالغة القسوة.. ويحتاج إلى مواجهة التحديات بمنهج واضح ينحاز للديمقراطية وللعدل الاجتماعي بقدر ما يحتاج للتأكيد على عروبة مصر وعلى رفضها لمشاريع الهيمنة الأجنبية. إنه امتحان عسير، خاصة في ظل اختلاف المواقف حول انتخابات الرئاسة، فهل ينفرط العقد، أم يعبر الجميع خلافاتهم ليبنوا نواة صلبة لحركة وطنية تكون طرفاً أساسياً في المعادلة السياسية، في ظروف يتقرر فيها مستقبل الوطن لسنوات طويلة؟!. ------ صحيفة البيان الاماراتية في 7 -8 -2005