حتى وإن كان الشأن الداخلي تتصاعد أحداثه، وينال منّا كل الاهتمام، ولكن هذا الزحام لا يجب أن يجعلنا ننسى واحدًا من أهم الشخصيات التي رحلت عنا منذ أيام، قد لا يسمع عنه البعض.. أو لا يعرف تفاصيل حياته البعض الآخر، ولكن من الواجب علينا أن نتعرف عليه عن قرب، فقد عاش حياته بعيدًا عن الأضواء، واختار طريقًا مختلفًا، استحق من أجله أن يحفر اسمه في سجلات الخالدين. إنه (أحمد الجعبري) الذي اغتالته يد العدوان الصهيوني منذ أيام، وعندها تنفست إسرائيل الصعداء، واحتفلت كثيرًا بالتخلص منه، ولم لا؟.. وهو الرجل الذي كانت تصفه أجهزة مخابرات الاحتلال ب(رئيس أركان حركة حماس)، للدلالة على المكانة الخاصة التي يحظى بها على رأس كتائب (عز الدين القسام)، حيث كان على رأس قائمة المطلوبين لإسرائيل، التي دائما ما تتهمه بأنه المسئول والمخطط لعدد كبير من العمليات ضدها، لكن المفاجأة الأكبر.. هي ما كشفه الجيش الصهيوني في تقريره بعد عملية الاغتيال، حينما اعترف بأن(الجعبري) هو من وضع تلك الخطة العسكرية المحكمة التي أدت إلى اختطاف الجندي الإسرائيلي (جلعاد شاليط)، وهوالمسئول كذلك عن إخفائه مدة خمس سنوات ونصف، حتى قاد المفاوضات التي أدت لإطلاق سراحه، بالإضافة لمسئوليته عن تحديث أساليب حركة حماس في المجالين العسكري والسياسي، لدرجة بات فيها القائد الأول في هذه الحركة عمليًا. ولد الجعبري عام 1960، في حي(الشجاعية) بمدينة غزة، وحصل على شهادة في التاريخ من الجامعة الإسلامية بغزة، وهناك بدأ حياته النضالية في صفوف حركة فتح، حيث اعتقل في بداية الثمانينيات على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، وأمضى13 عامًا في السجن بتهمة مقاومة الاحتلال، وخلال وجوده في السجن عرف طريق الالتزام الديني، حيث انتمى لحركة "حماس"، وعمل بمكتب القيادة السياسية لها، وتأثر بعدد من قادتها ومؤسسيها الأوائل كان أبرزهم الشهيد (عبد العزيز الرنتيسي)، و(إسماعيل أبو شنب)، ومؤسس أول ذراع عسكرية للحركة الشهيد (صلاح شحادة). تركز نشاط الجعبري عقب الإفراج عنه من سجون الاحتلال عام 1995، على إدارة مؤسسة تابعة لحركة حماس تهتم بشئون الأسرى والمحررين، وتوثقت صلته بالقائد العام لكتائب القسام (محمد الضيف)، وهو ما دفع لاعتقاله في العام 1998 من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، التي اتهمته بلعب دور حلقة الاتصال بين القيادتين السياسية والعسكرية لحركة حماس، وتشاء الأقدار أن يتحرر من الاعتقال، عندما قصفت قوات الاحتلال مقار الأجهزة الأمنية الفلسطينية مع اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000، حيث أصبح (الجعبري) ثالث ثلاثة في المجلس العسكري لكتائب القسام، وبدأ رحلة إعادة بناء كتائب القسام وتطوير قدراتها، من خلال بناء وحدات وتشكيلات تشبه "الجيش النظامي" ينضوي تحت لوائه نحو عشرة آلاف مقاتل، ويمتلك ترسانة من الأسلحة المتنوعة. تعرض (الجعبري) لمحاولات اغتيال صهيونية عدة، أبرزها تلك التي نجا منها بعد إصابته بجروح خفيفة في العام 2004، بينما استشهد ابنه الأكبر محمد، وشقيقه وثلاثة من أقاربه، ويذكر التاريخ أن(الجعبري) كان مفتاحًا هامًا في صفقة تحرير الأسرى الفلسطينيين العام الماضي، مقابل إطلاق سراح الجندي الصهيوني (جلعاد شاليط)، حيث قاد بنفسه عملية التفاوض مع الاحتلال لإطلاق 1027 أسيرًا، بحيث يشمل الرقم جميع الأسيرات والأطفال، ووقتها أشاد الإعلام بعبقريته في التفاوض، وإصراره وتمسكه بإطلاق كافة الأسرى موضع النقاش. صحيح أن (يورام كوهن) رئيس المخابرات الإسرائيلية هو من أشرف بنفسه على عملية اغتيال (الجعبري)، ولكن حسبه أن كلمة النهاية في قصة حياته كانت الشهادة، بأجسادكم أيها الشهداء أعدتم الفرحة للأمهات الثكلى، وزرعتم الأمل في عيون الأطفال، بإيمانكم وشجاعتكم كسرتم الخوف الذي سكن القلوب، وكتبتم تاريخ عزتنا، وأشعلتم بأجسادكم الشموع التي مازالت تنير دروب الحرية والكرامة، حتى وإن نساك البعض يا أحمد.. فيكفيك أن الله تعالى ذاكرك، وأن اسمك محفور في سجلات الخالدين من الشهداء. [email protected]