ما من شك أن بلدان الثورة العربية التى قلبت مؤخراً أنظمة حكم متواطئة مع الصهيونية العالمية لم تعد هى نفسها التى كانت تعرفها إسرائيل طوال العقود الثلاثة الأخيرة، ذلك أن الشعوب العربية بثورتها المتفجرة، تسير فى طريق تحرير أنفسها من الاحتلال الداخلى ومن التبعية الخارجية، وهو مؤشر جيّد على إمكانية مواجهة العدو الصهيونى خلال العقد القادم، إن شاء الله. غير أن عمليات التخريب الواسعة التى تعرضت لها الجبهات الداخلية – معنويا واقتصادياً وعسكرياً - فى البلدان العربية الملاصقة لحدود فلسطينالمحتلة، خلال العقود القليلة الماضية، وخاصة جبهة مصر، بعد اتفاقية كامب ديفيد 1979، جعلت أوضاع هذه البلاد من الضعف، بما لا يسمح لها، بأى مواجهة عسكرية حقيقية مع العدو الصهيونى، على الأقل خلال عقد كامل من الآن. هذه حقيقة وإن كانت شديدة المرارة، ولعل ما تحدث به السفير إبراهيم يسرى مؤخراً بقوله: "إن مطلب تعديل المعاهدة – كامب ديفيد - خاصة الملحق الأمنى منها، هو مطلب شعبى مطروح ولكنه يحتاج لوضع داخلى مستقر أمنيا واقتصاديا، علاوة على توقف الاحتجاجات الفئوية التى تخرج يوميا فى كل المؤسسات"، قول أصاب عيّن الحقيقة. بكل تأكيد، تمثل قضية احتلال فلسطين قضية مركزية وتحريرها من العصابة الصهيونية مسئولية أساسية للأمة الإسلامية. لكن هذا التحرير، لن يأتى مطلقاً عبر التظاهرات وحرق الأعلام وطرد السفير الصهيونى من أرض الكنانة، وإنما بإعادة بناء الجبهات الداخلية على كل الأصعدة، مع التركيز على تنويع مصادر السلاح والخروج من الخندق الأمريكى والتوجه نحو تطوير الصناعات الحربية الوطنية، مع التقدير الشخصى التام للهدف المعنوى الكبير، من وراء حركة الجماهير نحو التعبير عن غضبها ورفضها للعدوان المستمر على الشعب الفلسطينى. حين وقع العدوان الإسرائيلى على لبنان عام 2006، كنت أسير مع ابن شقيقتى بالقرب من شارعى ناهيا وممفرست بحى بولاق الدكرور بغرب القاهرة. كان غاضباً ورافضاً لموقف حكومة الرئيس المخلوع وصمتها على تدمير عاصمة عربية، بشكل علنى أمام عيون العالم، قلت له: "أنت على حق يا ولدى"، لكن أنظر لوضع شارع ناهيا أو ممفرست، ولعشوائيتهما الفجّة، لكى تفهم إلى أى مدى بلغ تدهور وضع جبهتنا الداخلية، وعدم استعدادها للحرب، بأى حال. قال لى "كيف يا خال؟!"، قلت له: هل شاهدت تليفزيونياً أو عبر إنترنت، أوضاع المستوطنات الصهيونية؟ قال لى: لا، قلت له: إن "أ.ب" الجبهات الداخلية لدولة تريد خوض حرب مع أمريكا – هى العدو الحقيقى للأمة الإسلامية – أن تكون شوارعها وميادينها ومصانعها ومعاهد تعليمها وأحياء مدنها الشعبية، مجهزة لحالة الحرب. قال: لم أفهم ماذا تقصد. قلت له: إن عشوائية شارع ممفرست بحى بولاق – مجرد مثال - واكتظاظه بالسكان وضيقه الشديد، كفيلاً بتحويله لمقبرة جماعية ضخمة، لو تعرض لقصف متعمد أو بالخطأ. لكن إذا نظرت للطرف الآخر، ستجد أن هذا شبه مستحيل، ولعل صواريخ العراق عام 1991 على مناطق فى الدولة الصهيونية، كشفت هذا بوضوح ولم تحرق نصف إسرائيل. قال لى: فعلاً يا خال، لو وقع هذا عندنا، تصبح كارثة وربما تقودنا للاستسلام للعدو. نفس الحوار دار بينى وبين ولدى يوم أمس، بعد الاعتداء الجديد على غزة، قال لى ابنى: يا والدى إن المقاومة الفلسطينية أطلقت عام 2008، وتطلق حالياً عشرات أو ربما مئات الصواريخ – محدودة التدمير، ومن قبل تكرر الأمر فى لبنان، حين أطلقت المقاومة اللبنانية مئات الصواريخ على مناطق الكيان الصهيونى، دون أن تدمر بنفس قوة تدمير الضاحية الجنوبية لبيروت. كيف هذا؟! قلت له: تعالى معاً نشاهد فيديوهات يوتيوب لأشرح لك شيئا ما. بعد أن شاهدنا مجموعة من الفيديوهات التى تصور ردود أفعال إطلاق صواريخ المقاومة الفلسطينية على الطرف الصهيوني، قلت له: هل شاهدت كيف هو التباعد الكبير بين الأبنية، بعضها البعض، وكيف هى قوة بنائها وتخطيطها؟ وكيف يهرعون لخنادق وحصون موجودة بكل منطقة سكنية أو داخل المستعمرات؟ قال: فعلاً إنها متباعدة ومنظمة، بما لا تسمح بوقوع خسائر بشرية تذكر، حتى لو كانت الصواريخ لها قوة تدميرية كبيرة. قلت له: هذا مجرد مثال، يكشف الفرق بيننا وبينهم. هم يعملون ويتدربون ويجهزون أنفسهم جيّداً، ويحصلون على، بل ويصنعون بأنفسهم، الأسلحة المتطورة المدمرة، بينما معظم أسلحة مصر والبلاد العربية والإسلامية، تحت سيطرة ورحمة حلفاء إسرائيل، وحتى لو كان جزء من أسلحتنا من روسيا أو الصين، أو من صنعنا، فإن الحكام يستخدمونها ضد شعوبهم وليس ضد إسرائيل! الخلاصة، إن الحرب مع العدو الصهيونى- الأمريكى ليست نزهة، وصارت مهلكة جداً مع التدميرية الضخمة للسلاح الغربى، ولكنها ليست مستحيلة ولا خوف منها أيضاً، فى حالة إعادة بناء الجبهات الداخلية ورص الصفوف وحشد الطاقات والأخذ بالأسباب ومراعاة التطورات التكنولوجية على كل الأصعدة.