اهتزت الأرض في مصر وربت، فقد نزل عليها الماء، ولا ينكر أحد أن الحركة النشيطة قد عادت بعد طول سكون وجمود، وها هي الساحة السياسية تشهد نمطاً جديداً من التنافس بين عشرة مرشحين سعيا لمنصب رئيس الدولة، للمرة الأولى بالانتخاب المباشر. ورغم كل تحفظاتنا على صياغة تعديل المادة 76 من الدستور، إلا أن التعديل قد فتح باباً جديداً، بل بدأ مرحلة جديدة من العمل السياسي، يتيح الفرصة لإصلاح ديمقراطي قادم، ولذلك سنأخذ انتخابات الرئاسة الأسبوع القادم السابع من سبتمبر/ ايلول على علاتها، حاملة إيجابياتها وسلبياتها، تطلعا لأن نبني فوقها فنعدل ونطور، رغم أن الأفضل كان التعديل الحقيقي للدستور ليكفل انطلاقة حقيقية نحو الإصلاح. ورغم كل التحفظات، إلا أننا نسمع أول مرة ونشاهد عبر شاشات التلفزيون الحكومي، صوت المعارضة ينافس الرئيس الحاكم، بل ويتحداه علنا في سابقة جديدة، حتى لو وصفها البعض بأنها تمثيلية شكلية.. غير أن التمثيلية إن بدت اليوم شكلية، فغداً ستكون حقيقية، وعلى هذا الأساس دعونا نمهد الطريق عبر انتخابات السابع من سبتمبر، لانتخابات قادمة، تستكمل الشكل وتتشبع بالمضمون. ولقد سألت نفسي، لماذا ننتخب، ومن سننتخب؟ إجابة الجزء الأول من التساؤل تكمن في أننا لعقود طويلة ظللنا نشكو من حرماننا من المشاركة الحقيقية، ومن تهميشنا عبر الاستفتاءات المصطنعة والانتخابات الشكلية (أعني المزيفة والمزورة) وها هي الفرصة قد جاءت ولو منقوصة، لنستأنف ممارسة حقنا في المشاركة، ولندلي بأصواتنا لواحد من العشرة المتنافسين، في بداية تدريب وتمرين جاد. أما من سننتخب، فهذا هو السؤال الصعب، لأن لكل من المتنافسين العشرة أحقيته وجدارته الشخصية، لكن المشكلة العويصة، هي أن التنافس يجري على منصب هو الأعلى في الدولة، مما يعني شروطا دقيقة، واختيارا أمينا وصراحة صادقة مع النفس ومع مصلحة الوطن. ولقد قرأت وتابعت ما طرحه المرشحون العشرة من أفكار ورؤى ووجدت أنها تمتلئ وعودا وتعهدات، لكن تكاد تخلو من البرامج الملزمة بمعناها وتعريفاتها المتعارف إليها ديمقراطياً وسياسياً، ربما باستثناء قليل يتمثل في ما يطرحه مرشحا الحزب الوطني الديمقراطي “الرئيس محمد حسني مبارك” وحزب الوفد “الدكتور نعمان جمعة”، الأقرب إلى صيغة البرامج الانتخابية، ويبدو أن المنافسة الفعلية ستكون بينهما، مع حفظ أقدار وفرص ومكانة باقي المرشحين وطموحاتهم المشروعة. * * * ومن باب تأكيد ما هو مؤكد في أعماقي، سأعطي صوتي، لمن يقنعني بأنه جاد وملتزم التزاما وثيقا، بإجراء تعديل دستوري شامل، يدفع التغيير الحقيقي نحو أهدافه، ويحقق خمسة مطالب محددة هي: 1 إقرار دستور عصري ديمقراطي جديد، يعيد التوازن بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويوقف تغول السلطة التنفيذية على ما سواها، ويعيد الدور الرقابي والتشريعي للبرلمان المنتخب بشفافية وحرية ويحقق استقلال القضاء، ويطلق حرية الصحافة والرأي والتعبير، ويقيد الصلاحيات المطلقة لرئيس الدولة الواردة في الدستور الحالي، ويحدد مدة ولايته بفترتين فقط. 2 إلغاء القوانين والإجراءات الاستثنائية، وأولها حالة وقانون الطوارئ، والعودة إلى القانون الطبيعي وحكم القانون، وترسيخ دولة المؤسسات التي تعمل بشفافية وتخضع للمساءلة والمحاسبة، من خلال البرلمان والصحافة الحرة والرأي العام صاحب السيادة والولاية ومصدر الشرعية الوحيدة. 3 إعادة بناء المؤسسات الشرعية، بما يعني إطلاق حرية تكوين الأحزاب السياسية، وإصدار الصحف، وتكوين منظمات المجتمع المدني الأهلية، الأمر الذي يستدعي إلغاء فوريا للجنة الأحزاب وقانونها الحالي، ولقانون الصحافة ولكل النصوص المقيدة والسالبة للحرية في جميع القوانين الأخرى، وللقانون رقم 100 الخاص بالنقابات المهنية على سبيل المثال لا الحصر، فهي في الأساس قوانين مقيدة للحريات. 4 إعادة الاعتبار لمبدأ العدل الاجتماعي من خلال التنمية الإنسانية الشاملة، بعد توحش سلطة المال وتحالفها غير الشرعي مع السلطة والإعلام وزيادة مساحات الفقر والبطالة والفساد وثقافة النهب والتهريب، على حساب الإنتاج، وبالتالي إعادة بناء علاقة متوازنة بين السلطة والشعب، بين الدولة والمواطن وفق عقد اجتماعي جديد، يعيد الاعتبار لقيمة العمل والعقل، عن طريق إصلاح جذري للمنظومة الثلاثية، التعليم والإعلام والثقافة. 5 إعادة رسم وتحديد دور مصر الإقليمي والدولي، باعتبارها دولة محورية بوضع مركزي في منطقة العواصف والزلازل السياسية والصدامات الحضارية، وهو دور يرتبط حتما بالمجموعة العربية برباط مقدس، ومنها وبها ينطلق نحو قدرته على التأثر والتأثير في الإطار الدولي، وصراعاته العنيفة ومصالحه وأهدافه المختلفة بل المتناقضة أحياناً. * * * وغني عن البيان أن من سيلتزم بهذه المبادئ الخمسة، سيكون قد التزم ضمنا بمحاربة جادة ومستمرة للفساد والاستبداد، فهما في يقيني أس الداء وأصل البلاء، لطالما حذرنا من استشرائهما وطالبنا بالتالي بالتركيز على محاربتهما، ومن العجب العجاب أن أحدا من المرشحين لم يتعرض بحسم ودقة لمحاربة هذه الشياطين المركبة، اللهم إلا الإشارات العابرة والمتعجلة هنا أو هناك، في هذا البرنامج أو ذاك! ولو كنت واحداً من المرشحين، لاكتفيت برفع شعار أساسي هو صلب فلسفة الحكم، شعار محاربة الفساد والاستبداد، ومنه يوضع برنامج زمني بآليات محددة، وفي هذا لا أدعي أنني وحدي ولكنني على الأقل واحد من كثيرين نادوا بهذا الشعار، وما زلت قابضا على الجمر سائرا في الطريق نفسه، ممسكا بذات المنهج والأسلوب. ومن حسن حظي أنني انخرطت على مدى السنوات الماضية في برنامج طموح للأمم المتحدة، هدفه تحقيق الحكم الصالح الرشيد، ووضع أسسه، ينطلق أولا من محاربة الفساد والاستبداد من ناحية، ويعتمد ثانيا على إقرار مبدأ الشفافية والمكاشفة والمصارحة، والمساءلة والمحاسبة، وربما من أجل تحقيق كل ذلك تأسست هيئة دولية معروفة للشفافية ومحاربة الفساد، تصدر تقريرا سنويا عن حالة الدول المختلفة في العالم، ومن أسف تأتي معظم دولنا في أسوأ الأوضاع وأدناها. ولعلنا نقول للمرشحين قبل يوم الامتحان، الانتخاب، مثلما نقول للناخبين قبل أن يصوتوا، إن الإصلاح والتغيير يعني أول ما يعني محاربة الفساد والاستبداد، ساعتها تنتعش الآمال بديمقراطية حقيقية، وأن التغيير الحقيقي يعني تغييرا في الرؤية السياسية والفكر الحاكم، كما في الأساليب والممارسة والأشخاص والرموز، وأن الالتزام بالتنفيذ العملي، أي الارتباط الصريح بين الوعود والعهود، وبين آليات العمل وخطوط التنفيذ، هو المحك ومربط الفرس. ومن دون ذلك تصبح الوعود مجرد وعود شفهية في مناسبات احتفالية، سرعان ما تذروها الرياح، بعد أن ينفض السامر. ولا نريد أن ينفض السامر، قبل أن نتيقن من قدرة هذا المرشح أو ذاك على إلزام نفسه والالتزام أمام الناخبين، بتبني ديمقراطية جديدة، إن ترسخت في الأرض المصرية، أشاعت نورها في باقي الديار العربية. وهذا هو الدور الأصيل والحقيقي المطلوب من مصر اليوم وغداً، كما كان بالأمس.. دور الاستنارة والحرية. * * * * * آخر الكلام: يقول مصطفى لطفي المنفلوطي: فوالله إن لم تدركْ الأمرَ واسعا لأرغمتَ عن إدراكه وهو ضيقُ ------- صحيفة الخليج الاماراتية في 31 -8 -2005