كمال حبيب شهر رمضان وهو من الرمض أي اليوم شديد الحر ، ويقال رمض الصائم ( بفتح الراء وكسر الميم ) ، أي حر جوفه من شدة العطش ، والرمضاء أي الأرض أو الحجارة التي حميت من شدة وقع الشمس ، وشهر رمضان هو الشهر التاسع من السنة الهجرية ، فرمضان مادتها تدور حول شدة الحر ومكابدة آثاره والعطش الذي يصيب الإنسان منه ، ولدغات الشمس القارصة ، فكلها مادة تدور حول المعاناة والجهد ، ولو وسعنا السياق بالانتقال من اللغة إلي النص القرآني لوجدنا فرض الصيام مقررا بقوله تعالي " يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " ولم يستخدم تعبير كتب بمعني فرض إلا في الصيام والقتال والوصية والثلاثة يجمعها مشترك واحد وهو النية المجموعة بقوة داخل النفس والتي تعبر عن أعلي درجات الإيمان وهي " التقوي " ، والصيام هي من أعمال السر التي تكون بين المرء وربه " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " ، والصيام تدريب للذات علي الأمانة وتدريب لها علي البذل والتطوع وتحمل الصعاب والمشاق ، وتدريب لها علي الانتصاف من نفسها ، وهل هناك انتصاف للقيمة والحق والدين أعظم من يقوم المرء بترك طعامه وشرابه إيمانا واحتساباً وممارسة القيام الطويل لتعليم النفس المسلمة وتدريبها أن قيمة الحق والحفاظ علي الدين أهم من شهوات النفس والفرج . وتخيل أن يكون المرء حكما علي نفسه وخصماً في ذات الوقت ، فأنت تختصم نفسك وذاتك وتحكم عليها أن تلتزم بأوامر الله وتمتنع عن الطعام والشراب من أول الفجر وحتي آذان المغرب ، هذه ممارسة إيمانية من أعلي مايكون ، وأظن أن القتال فيه هذا المعني ولكن علي درجة أعلي فالمرء يختصم نفسه التي تحب الدنيا وتحب اللذة والمتعة والاستهلاك والتطواف والسفر والمشاهدة ويحكم عليها أن تذهب لتقاتل وتتعرض لفتنة السيف دفاعاً عن كرامة الأوطان والإنسان أن تتعرض للخطر أو أن يعتدي عليها ، وهنا معني " وهو كره لكم " أي وأنتم تكرهونه ، والوصية فيها معني الانتصاف والالتزام بالوصية ، وتعبير الكتابة من الله عن الفرض في هذه المواضع يعني أن الصيام والقتال والوصية – أي الالتزام بقواعد الميراث فيها سر خاص بين المرء وخالقه . والتقوي هي هدف الصيام " لعلكم تتقون " ، وأظن التقوي هنا معناها " الانتصاف للحق من النفس ، والانتصاف للخلق من النفس ، وجعل النفس حذرة واعية من ذاتها " وهل هناك مستوي للمراقبة أعلي من هذا . والصيام يعلم المسلم السيطرة والضبط ، ولكنه سيطرة وضبط ذاتي ، بدون سلطة قوة من الخارج ، فالنظم الاجتماعية الغربية أو العلمانية تقوم علي فكرة " الضبط الاجتماعي عن طريق القانون الخارجي " ولكن النظام الإسلامي يعلم المسلم " الضبط النفسي والأخلاقي والاجتماعي " عن طريق الضمير الداخلي ، فأنت أيها المسلم مفروض عليك ومكتوب عليك الامتناع عن الأكل والشرب والجماع من وقت الغروب وحتي طلوع الفجر ، فهنا نوع من النظام والتدريب والتعليم علي السيطرة علي النفس والغرائز . بيد إن الصيام ليس مقصودا منه فقط تجويع المسلم ولكن مقصود به تربيته وتهذيبه وإصلاحه واستقامته لذا قال الله تعالي في الحديث القدسي " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " ، وهذا معني فكرة ضبط النفس والسيطرة علي نوازعها الشريرة والضارة ، ونقصد هنا النفس الأمارة بالسوء ، وربما أذهب إلي القول إلي أن الأحاديث التي أشارت إلي تصفيد الشياطين بمعني أن أصفادها هي التحصين النفسي الذي يحدثه الصوم للمسلم بحيث لا يمكن للشياطين أن تخترق الذات وتوسوس لها وتغويها وتضلها ، فالأصفاد التي تقيد الشياطين هي يقظة روح الإيمان في نفس المسلم بحيث يكون شهر رمضان هو إعلان انتصار المسلم علي الشيطان عدوه وعدو أبيه الأول الذي أخرجه من الجنة . وشهر رمضان هو الأيام المعدودات التي يتجدد فيها إيمان المسلم فيقرأ القرآن الكريم بانتظام ، ويغض البصر ، ويلجم نوازع الغضب ، وهذا معني قول النبي " الصيام جنة " أي وقاية للذات من الشيطان ومن نوازعها الشريرة ، وهي حماية للمجتمع من شرور الآخرين ، وهو تعبير عن التكافل الاجتماعي بين المسلمين ، وهو شهر القرآن والقيام والصلوت والخيرات والمصالحة بين الناس وصلة الأرحام ،إنه الشهر التي تجدد فيه الأمة المسلمة إيمانها وتعيد الاعتبار لقرآنها وشريعتها وتعلن أوبتها ورجوعها إلي ربها وإلي مرفأ التماس الرحمة . حرصت في اليوم الأول أن أقرأ وردي الذي لن أتوقف عنه طول الشهر بإذن الله وهو تعبير عن إرادة الانتظام وتكوين الإرادة وبنائها ، وصليت جميع الصلوات جماعة في المسجد مع المسلمين وهذا تعبير واقعي عن معني الأمة ، وصليت القيام وشاركت في الدعاء مع المسلمين وهنا معني المشاركة ، الصيام شهر الخير فالتمسوا فيه معان جديدة للإيمان والتقوي والتزكية عبر المجاهدة والمصابرة والطاعة لله وحده . [email protected]