في الوقت الذي قام فيه العالم الغربي بمحاولة السيطرة على التراث العلمي والفلسفي القديم و ادعاء أن أي منجز علمي أو حضاري يعود إلى جذور يونانية ، قام المثقفون العرب في المقابل بتجاهل المنجز العربي بل وتشويهه حتى ترسخ في ذهن الأجيال الجديدة أن اتباع النموذج الغربي في كل المجالات هو البداية الحقيقية للنهضة العربية ، و قد قام بعض هؤلاء المثقفين للترويج لفكرة المعجزة اليونانية The Greek Miracle و المركزية الأوروبية Euro-centrism ، لكن الأمر الأكثر غرابة هو أن المناهج التعليمية مارست دورا لا يقل خطورة إن لم يكن أشد في تجاهل المنجز العلمي الشرقي بشكل عام (فرعوني- هندي – فارسي- عربي) وكأن هذا الشرق ليس له أي قيمة علمية ، وأن دوره الحضاري هو دور (ديني) و (روحي) فقط ، أما العقل و العلم فهما منتجات غربية ، فعندما تقدم نظرية الجاذبية لإسحاق نيوتن مثلا يتصور الكثيرون أن فكرة الجاذبية فكرة حديثة لم تخطر ببال أحد من الأقدمين ، على الرغم من أنها فكرة معروفة و مطروحة في الثقافات القديمة ، ثم تناولها البيروني بشيء من التفصيل في كتابه الشهير " القانون المسعودي" ، وكذلك الحال بخصوص نظريات مثل كروية الأرض و دورانها .. ما زال البعض ينسبها للفكر الغربي على الرغم من طرحها في كثير من الثقافات المختلفة . ولم يقتصر الأمر على الجانب العلمي فقط ، بل إنه امتد إلى علوم اللغة و البلاغة التي نالت الحظ الأوفر من الاهتمام العربي عبر تاريخ التاريخ ، فتم إهمال و تجاهل نظريات الجاحظ و القاضي عبد الجبار وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم من كبار المنظرين العرب ، والترويج للشكلانية الروسية Russian Formalism مقولات دو سوسيه وكثير من النظريات الغربية الحديثة ، وفي حقيقة الأمر فإنها ليست حديثة بل تناول نقادنا الكبار مقولات مشابهة بل و اكثر رصانة و علمية قبل أن يتناولها الفكر الغربي بقرون .لقد آن الأوان إذن لمراجعة التراث العالمي بشكل عام لكي تعرف الأجيال الجديدة أن تاريخ البشرية العلمي العريق لا يمكن أن يختزل في القرون الثلاثة الأخيرة لدى العالم الغربي ، وأن هذه (البدعة ) العلمية ، وهذا (التزييف) للحقيقة لا يمكن أن يستمر . ومع ذلك فلا يمكن لمنصف أن يتجاهل قيمة العقل الغربي في النهضة التي تشهدها البشرية في وقتنا الحالي ، لكن موقفنا النقدي الذي نوجهه للفكر الغربي هو محاولة (إيهام) العالم بأن هذا منجزه (وحده) ، و أن (الجنس الآري ) من حقه أن يمارس الاستعلاء على بقية الأجناس الأخرى . و هدفنا هو التحلي بقدر معقول من الموضوعية تجاه هذه (الهالة) الغربية التي تمجد شخصيات مثل (تاليس) و (فيثاغورث) و ( إقليدس) و غيرهم و تتجاهل التراث الشرقي القديم سواء على مستوى الأسطورة أو البحث العلمي . لذلك فسوف نتحدث هنا عن نظريات الصحابة الكونية و الجيولوجية و بخاصة نظريات (عبد الله ابن عباس ) رضي الله عنهما . فقد تحدث الصحابة في النظريات الكونية .. تحدثوا عن نشأة الكون وخلق الإنسان و علم الفلك و نظريات في نشأة الجبال وغير ذلك من الظواهر الكونية . لقد رأي (ابن عباس) أن السماوات و الأرض كانتا كتلة واحدة ثم حدث هذا الانفصال بينهما ، وهي نظرية تقترب من نظرية الانفجار العظيم Big bang مع بعض الفروق ، و كان رضي الله عنه يرى أن الأرض كانت كتلة واحدة ثم حدثت لها عملية (فتق) و(دحو) و انفصال بين بعض أجزاء اليابسة ، وهي صورة طبق الأصل من نظرية العالم الألماني فجنر Wegener في تباعد القارات . كما يرى ابن عباس أن اليوم المذكور في قوله تعالى خلق الأرض في يومين يرى أنه لا يمكن أن يكون يوما أرضيا معتادا ، وأنه لابد أن يساوي (ألف سنة ) ، وهو قول خالفه فيه كثير من العلماء ..لكنه كان يرى فكرة التطور الزمني الطبيعي للأرض ، وهي فكرة علمية حديثة تصر على أن الكون مارس عملية تطور Evolution ذاتي ، لكن ابن عباس لم يكن يؤمن بتلك الذاتية بل هو تطور خلال الزمن و لكن بمشيئة إلهية ..كما أن التقويم الزمني عند (ابن عباس) يختلف عن التقويم الزمني الحديث الذي يمتد لمليارات السنوات .لكن المدهش أن (ابن عباس) تجاوز عصره و تحدث عن نظرية الأكوان المتعددة Multiverse و هو الأمر الذي رفضه جمهور العلماء ، واعتبروا ان الحديث المنسوب إليه حديث (شاذ) بلغة علم مصطلح الحديث أي إنه صحيح سندا لكنه يخالف ما اتفق عليه جمهور الصحابة ، وقد تولدت (نظرية الأكوان المتعددة) عند ابن عباس رضي الله عنهما من خلال تفسير قوله تعالى : "الله الذي خلق سبع سموات و من الأرض مثلهن .. يتنزل الأمر بينهن" ...بل ويميل إلى فكرة دوران الكون Spinning universe . ولا شك أن (نظريات ) ابن عباس الكونية مقتبسة من فهمه لآيات القرآن الكريم الذي حرر العقل العربي و العالمي من فكرة الخرافة و دعا إلى تدبر الآيات الكونية . و لو كان قدر لهذه الأمة أن تحذو حذو ابن عباس و الصحابة رضي الله عنهم في تفسير و تقديم آراء و نظريات حول الكون ، لكان حال الأمة اليوم غير هذا الحال المثير للشفقة و الذي يتركز حول التبعية الببغائية لكل ما هو غربي دون أن يكون هناك موقف نقدي مستقل ينبع من الخصوصية الثقافية العربية.