إذا تطلب الأمر أن يُطلب منك أن تذكر أعلام القصة أو الأدب أو الشعر في بلد ما فلن يستعصي عليك الأمر بأن تملأ صفحة كاملة بأسماء المشاهير أو أنصاف المشاهير أو المغمورين على حد سواء. وإذا تطلب الأمر أن يُطلب منك أن تذكر أعلام المشاهير في العديد من المجالات الأخرى كالفن أو الرياضة، فلن يصعب عليك الأمر أيضًا بأن تذكر عشرات الأسماء من المشاهير أو أنصاف المشاهير أو المغمورين على حد سواء. أما إذا تطلب الأمر منك أن تذكر اسمًا واحدًا فقط باعتباره الأكثر شهرة والأعلى باعًا في كل مجال من هذه المجالات، فلا بد أن تصيبك الحيرة طويلا لتقوم بالاختيار بين ثلاثة أو أربعة أسماء على الأقل. أما إذا كان هذا الأمر في مجال الترجمة، فلن تصاب بمثل هذه الحيرة أو التردد على الإطلاق وأنت تذكر اسم الدكتور محمد عناني سواء كاسم وحيد أو على رأس قائمة المترجمين. فلا يوجد أحد من العاملين في مجال الترجمة أو الدارسين لها من لم ينهل من علمه سواء بالتلمذة على يده في قاعات المحاضرات أو من خلال العديد من كتبه التي تتميز بالثراء والتنوع. يعرفه كل دارس لعلم الترجمة كما يعرفه كل قارئ للكلمة المكتوبة، ويعرفه كل مترجم سواءً كان مبتدئا في علمه أو متبحرًا فيه، كما يعرفه كل عاشق لقراءة الأدب أو النقد أو الشعر، فهو صاحب (السبع صنايع والبخت موجود بإذن الله). وقل أن تجد مثل هذه القامة الرفيعة في اللغة التي يترجم منها والتي يترجم إليها. ولا يقتصر تفرد محمد عناني على الترجمة بأنواعها فحسب، بل يمتد تفرده إلى العديد من المجالات الأدبية كالنقد الأدبي وفن المسرح. كانت بداية معرفتي به على الورق فقط، مع سيرته الذاتية التي أصدرها في ثلاثة أجزاء (واحات العمر، وواحات الغربة، ثم واحات مصرية) وكلها تسجل فترات حياته الحافلة منذ الطفولة وحتى أواخر سنوات التسعينيات موعد صدور هذه الواحات التي تمثل سيرة حياته، وصَدرت تباعا في أجزاء وهي مكتوبة بأسلوب السهل الممتنع أو السهل الممتع. وكان من أسباب حبي للترجمة وتحولي إليها ما قرأته من ترجمات محمد عناني وسيرته الذاتية الجميلة (الواحات بأجزائها الثلاث). ولم ألتق به إطلاقًا إلا منذ عدة أشهر وبطريقة عابرة ولدقائق ولا أظنه يتذكر هذا اللقاء في مؤتمر للترجمة وعندها أبديت إعجابي بواحاته التي صدرت منذ فترة طويلة وأعربت عن أمنيتي أن أراها في كتاب واحد يجمع الواحات الثلاث في كتاب واحد لأنني فقدت إحداها، سرني أن تحققت هذه الأمنية، وقمت بشراء النسخة الجديدة للاستمتاع بقراءتها مرة أخرى. تعج الواحات بالعديد من قصص الحياة الواقعية الجميلة التي واجهت المؤلف سواء في أيام صباه في رشيد حتى العمل كأستاذ للأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة، أو في سنوات الغربة في لندن، أو الجزء الثالث الذي يصور سنوات ما بعد العودة من البعثة في مصر، وأورد هنا قصة واحدة من عشرات القصص الجميلة التي تعج بها الواحات، وعلى لسانه وهي قصة طريفة لشخص يُدعى ميخائيل منسي يوسف: جاء فراش الكلية ليقول: أن الدكتور منسي في انتظار طلبة الدراسات العليا"، ولم أكن أعرف أحدًا بهذا الاسم في الكلية، فدفعني حب الاستطلاع إلى الاستقصاء عنه. وتتلخص قصته في أنه جاء إلى الدكتور رشاد رشدي ليقول له أنه حصل على الدكتوراه في الدراما من جامعة لندن، وأنه يقوم بتدريس الدراما حاليًا في الجامعة الأمريكية، ويود أن يقوم بترجمة مسرحياته إلى الإنجليزية ونشرها في لندن، كما يود أن يقوم بتدريسها للطلاب ولكنها للأسف باللغة العربية! وبانتهاء الجلسة كان الدكتور منسي يتولى تدريس الدراما لطلبة الدراسات العليا، وحصل على خطاب مختوم من الكلية بأنه أستاذ الدراما.. ويا لها من دراما!! ويمضي المؤلف في سرد القصة الطريفة فيقول: "وبعد أسابيع فوجئ الجميع بمقال نقدي في الدراما منشور في صحيفة الأخبار باسم الدكتور منسي يوسف .. , واتضح أنه ذهب إلى مكتب وزير الإعلام وقدم نفسه على أنه المتخصص الوحيد في الدراما، مستنكرًا استبعاده من الصحافة، وعلى الفور اتصل الدكتور عبد القادر حاتم برئيس تحرير الأخبار واتفق معه على تعيينه كاتب عمود في الصحيفة! وبدأ نجم منسي يوسف في الصعود حين أفصح القدر عن مفاجأة لم تكن متوقعة إذ رآه أستاذ حصل على الدكتوراه من كلية بدفورد بجامعة لندن، كما رآه أستاذ آخر كان يدرس بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية (وكان منسي يصر على أنه حصل على الدكتوراه من الكلية الأولى، فلما حوصر أنكر وعاد للقول أنه حصل عليها من الثانية)، وطالبته الجامعة بتقديم ما يثبت حصوله على تلك الشهادة فتلكأ واعترض وماطل، ثم أقلع عن الحضور إلى الجامعة، ثم طالبته الجامعة الأمريكية كذلك بأوراق رسمية، وكانت النتيجة مماثلة، ثم طالبته الصحف بشهادة أو ما يوازيها ..." ثم يستكمل مؤلف الواحات القصة بمفاجأة حينما كان على موعد في فندق سميراميس في انتظار صديق كان يعمل في الإذاعة البريطانية، وكان معهم منسي يوسف، ووصل "ممدوح عياد" الصديق الإسكندراني الذي كانوا في انتظاره، وبمجرد أن وقعت عيناه على منسي يوسف صاح قائلا: "مايكل .. مايكل .. يخرب بيتك، بتعمل إيه هنا؟ وقص عليهم قصة مايكل المفصول من الإذاعة البريطانية وكان يعمل مترجمًا في برامج الإذاعة البريطانية، وكان اسمه في أثناء وجوده في لندن هو "مايكل بسطاروس"، وفي مصر منسي يوسف، وكان يزعم للهنود أنه هندي، وللإنجليز أنه من أصل إفريقي ومتخصص في لهجات إفريقيا السوداء، ولغيرهم أنه مصري (وهذا هو الصحيح فقط). سيرة ذاتية جميلة يمكن للقارئ العادي أن يستمتع بقراءته، ودروس في المثابرة والسعي للطلاب والشباب، ومتعة خالصة لغيرهم. نأمل أن تظل واحات محمد عناني وارفة الظلال ليستظل بها كل عاشق للترجمة أو الأدب، أمده الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية نُشرت في المصريون يوم 09 - 10 – 2017