جمال سلطان غاب عنا أول أمس الدكتور عبد الحليم مندور المحامي ، لم نعلم بالخبر إلا مصادفة ، كان بعض الزملاء يتصلون بمنزله من أجل الحصول على تعليقه على أحد الأخبار الواردة ، ففاجأنا من رد على الهاتف بأن الدكتور مندور توفي أمس ، كانت صدمة حزن وألم للكثيرين من محبي عبد الحليم مندور ، والعارفين لقدره ، فلقد كان الرجل قامة كبيرة في عالم المحاماة ، كما كان قامة كبيرة في الحياة السياسية رغم أنه انزوى عنها في السنوات الأخيرة تعففا عما رآه عبثا وتماجنا في تعامل الحزب الحاكم مع الأحزاب والقوى السياسية المختلفة ، فلقد كان الراحل الكبير أحد الأركان الأساسية التي أسس عليها فؤاد سراج الدين حزب الوفد الجديد ، قبل أن ينسحب منه ، عبد الحليم مندور إذا أردت أن تلخصه فيمكنك أن تقول بأنه موسوعة تاريخ مصر السياسي الشعبي الحديث ، إذ لا توجد قضية سياسية يكون أحد أطرافها تنظيم سياسي شعبي معارض إلا وكان مندور طرفا فيها ، متهما قبل الثورة أو محاميا بعدها ، معظم قضايا الحركة اليسارية وتنظيماتها المختلفة ، معظم قضايا الإسلاميين الكبرى ، معركة محاكمات انتفاضة يناير 77 الشهيرة ، كان فارسها أيضا ، إلا أن أشهر قضية تصدى لها كانت قضية خالد الإسلامبولي رحمه الله ورفاقه ، في واقعة اغتيال الرئيس السادات ، وكذلك قضية أو قضايا الشيخ عمر عبد الرحمن ، حيث كان الاثنان يطمئنان كثيرا لنبل شخصية عبد الحليم مندور وأمانته وعمق صلته بالله ، ولذلك كانا يعتبرانه محاميهما الوحيد ، رغم كبر سنة مؤخرا واعتلال صحته ، وقد حكى لي الكثير عن اللحظات الأخيرة في حياة خالد الإسلامبولي قبل إعدامه ، وكيف أنه كان يتسابق إلى تنفيذ الحكم مع عبد الحميد عبد السلام ، وكانت الدموع تنزل من عينيه في كل مرة يحكي لنا الواقعة ، عبد الحليم مندور عندما كان يحكي لنا وقائع تاريخ مصر بما في ذلك حريق القاهرة بتفاصيل دقيقة لم تنشر أبدا في كتاب ولم يكتبها كاتب قبله ، مرورا بخفايا قضايا التنظيمات الشيوعية والجماعات الإسلامية كنا نتحسر على هذا الكم من المعلومات التي تمثل أرشيف مصر السياسي إن صح التعبير ، ولطالما حلمت أنا وأخي كمال حبيب باليوم الذي تتاح لنا فيه الإمكانيات المادية والبشرية التي نحول بها هذا التراث الشفهي المذهل إلى تراث مكتوب ، وموثق ، ولكن يبدو أن الأجل كان أسبق منا جميعا ، كان هذا الرجل عاشقا لمصر عز أن تجد له مثيلا ، وكانت له رؤية في غاية النبل والتجرد للتيارات السياسية المختلفة ، محافظا على قدر كبير من الموضوعية في التقييم ، حتى في مرحلة ما قبل ثورة يوليو وكان يتحدث بجلال شديد عن شخصية مصطفى النحاس ، وكان على قدره وقامته شديد التواضع ، وأذكر أنه عندما قررنا إنشاء حزب الإصلاح ، وكنت وكيل المؤسسين ، ذهبنا إليه لكي نستشيره ونشركه الرأي ، ونستفيد من خبرته ، ففوجئنا به يعلن أنه مؤسس معنا ، وأصر على أن يذهب معي إلى الشهر العقاري لكي يكتب لي توكيلا ، وكنت في غاية الحرج وقدماي تتثاقلان على الدرج المؤدي للشهر العقاري في العتبة ، حياءا من أن يتقدم الرمز الكبير عبد الحليم مندور لكي يعد لي أنا توكيلا ، ولكنه كان صارما ويدعو لنا بالتوفيق ، وتولى قضيتنا في مجلس الدولة بعدما رفضتنا كما هو متوقع لجنة أحزاب الحزب الوطني ، عبد الحليم مندور تاريخ وقيمة ونضال ونبل وعطاء يعز نظيره في تلك الأيام العقيمة ، ولا يسعفني الوقت لكي أحكي كل ما في ضميري من مشاعر وامتنان وإكبار لهذا الإنسان العظيم ، يرحمه الله . [email protected]