منذ بضعة أسابيع لم تلامس يدي القلم -استراحة محارب-ولكن خلال الأيام القليلة الماضية تعرضت لحادثة غريبة، جعلت الكلمات تتدفق بقوة بين أصابعي وتأمرني أن أكتب.. كان لديّ إحساس بأن الحبس ليس بعيدًا عني، ربما بعد فراق أصدقاء أطلق عليهم فيما بعد "مختفين قسريًا"، وآخرين معتقلين سياسيين كانوا لي إخوة، فلست أفضل منهم، بل هم الأفضل في كل شيء، ومن ثم كان شبح الزنزانة يراودني من حين لآخر. كانت البداية.. عندما تلقيت "رسالة نصية" تضمنت مصطلحات جنسية صريحة، وإيحاءات صارخة لا يقبلها دين وشرع، وألفاظا نابية لم أسمع عنها من قبل، اتجهت أصابع الاتهام واليقين نحو "شخص ما" لم يكن مجهولاً لديّ -مراهق مواليد عام 2000- وعندما يئست للوصول لترضية مع أسرته، لجأت لأخذ حقي بالقانون، وسط معارضة شديدة من الأهل والأصدقاء حتى المحامين! فالرسالة من رقم مجهول، والأدلة ضعيفة، ولن أجني شيئًا من الهرولة خلف القانون سوى شقائي، وبرغم هذا لم أتردد ومضيت في طريقي.. وليتني لم أفعل!. تعرضت أثناء رحلتي القانونية، لأنواع شتى من الإهانات والمضايقات وتحرش على الماشي كدة..! غير استجداء الباشوات والبهوات لمساعدتي! ودوخيني يا لمونة.. حتى خارت قواي، كل هذا وصاحب الرسالة "الجاني" ينعم في غرفته المكيفة! لم أستسلم.. وكيف؟ وأنا "البت الجدعة" القوية، التي لا تقبل بإهانتها والتي كانت ولا تزال تدافع عن حقوق المرأة، وكتبت مقالات عن المرأة المظلومة، وعن ظاهرة التحرش، التي تسللت لمجتمعنا كالسرطان حتى أصبحت آفته!. فهل يروق لي الخنوع بعد هذا؟ كان عوني في هذا الطريق الصعب، معية الله لي، وإصراري وكبريائي.. إلى أن جاء اللقاء المرتقب بيني وبين مرسل الرسالة.. كان يتكلم برعونة و"مرقعة" وعدم اكتراث وبجاحة، وعلمت أن الأمر سينتهي بجلسة صلح، بعد كل هذه المشقة في السعي لمقاضاته! لم أشعر بنفسي إلا وأنا أخلع حذائي بهدوء وأنهال على وجه الولد ب"صفعة" قوية، عقابًا له على فعلته معي، ولكي لا يكررها مع غيري! كان اللقاء بمكتب وكيل النائب العام، وما فعلته يعتبر إهانة للمكان، وكان هذا بداية حبسي، بوضع الكلابش بيدي الرقيقة الضعيفة، بواسطة أمين شرطة القاسي والفظ، وأصرّ على إهانتي، فقام بجرجرتي إلى الحجز، وكأني مجرمة عتيدة في الإجرام! وهكذا تحقق حدسي، بأني يومًا ما سأكون نزيلة بأحد السجون المصرية الفاخرة! أقاموا علىّ الحد، وألقوا بي في غياهب الحبس لحين ميسرة، حتى يبت الباشوات في أمري! ولم يشفع لي مركزي الأدبي ولم يلتمس لي العذر! لم يهمني الحبس.. ولكن الذي شغلني هو القانون الذي عاقبني على الفور وحوّلني إلى جانية وترك الجاني الأساسي حرًا طليقًا! القانون الذي ينصف ويحبس ويعفو حسب هواه ومزاجه! لم ترهبني حجرة الحجز ولم أهبها، فقد تجولت فيها أتأمل خواطر المساجين المكتوبة على الجدران، والتي تحمل في معانيها غصة، وشتائم وتحمل أيضًا أمل! كان الكلابش ما زال يطوّق معصمي، فقامت إحدى الزميلات السجينات، بإدخال كيس بلاستيك في يدي وشده بهدوء، فأصبحت حرة، وأحسست بنشوة الانتصار على أمين الشرطة الذي أبى أن يفك قيودي! أما السجينات.. فقد تعاملت معهنّ كمعارف قدامى لي، نتجاذب أطراف الحديث، فلكل واحدة منهنّ قصة زجت بها خلف القضبان، ما بين اتجار في المخدرات وقتل، والكل مظلوم، فلا تدري هل تشفق على حالهنّ؟ أم تتمنى لهنّ أقصى عقوبة جزاءً لما اقترفنه من آثام؟ وعلى كل حال ياما ف الحبس مظاليم.. كما يقولون. كان ينقص "قعدة الستات" هذه فتيات الليل، فلهنّ حكايات ثرية عن عالم الليل والرجال تدوّن في كتب ومجلدات.. وللأسف لم أجد سجينة سياسية أو معتقلة رأي، لأشاطرها مصيبتها، وتخفف عني حداثة عهدي بالحبس. كل هذا وأكثر حدث لي ومعي.. والذي لا يكفيه مقال واحد.. ومع ذلك لم أهتز.. لم أتأثر ولم تذرف عيني دمعة واحدة، بل كانت تجربة لم ولن أندم عليها ما حييت، والدليل إني أوثقها وأكتبها الآن.. ولو عاد بي الزمن لفعلت ما فعلته وأكثر مع المتحرش بي! وبعد خمسين دقيقة تم إطلاق سراحي من سجن صغير إلى السجن الأكبر في ظلمات لا تعد ولا تحصى! وهكذا أصبحت أرباب سوابق! مقالي ليس للأنثى التي يجب ألا تتهاون في حقها، والدفاع عن جسدها وشرفها وكرامتها، فهي ليست عورة، أو جريمة أو خطيئة تستحق الوأد. ولكن مقالي رسالة للمجتمع.. الذي فرط عقده وتفسخ وانهارت وتدنت فيه منظومة الأخلاق، وأصبح المرء لا يأمن على نفسه من غدر القريب قبل الغريب! ويبقى أن أشير إلى أنه يومًا ما ستترصع سماء مصر بالحرية والديمقراطية والعدالة الناجزة، والرحمة والتراحم والاحترام والتكافل بين أهلها.. إنهم يرونه بعيدًا.. وأراه قريبًا إن شاء الله تعالى.