كان من أهم الأفكار التي تجاوزها الزمن وعاشت عليها الحركات الإسلامية وخاصة تلك التي اتخذت أطرا تنظيمية خارج إطار قانون الدولة هي فكرة السرية أو العمل السري أو عدم الإعلان عن الشخصيات الفاعلة حقيقية أو صاحبة القرار الفعلي، وإن كان الذي يستهدفونه بالسرية وهو الأجهزة الأمنة يعرف جداول الاجتماعات وتفاصيل محاضرها وأماكنها والشخصيات المؤثرة فيها ومن بيده مقاليد الأمور وإلى من تتبع من الشخصيات والأجنحة النافذة، وكأن السرية لم تكن إلا على الأفراد والأتباع وهم المعنيون الحقيقيون بمعرفة تفاصيل كل ما يحضر له وما يتخذ من قرارات، على الأقل باعتبارهم الذين سيدفعون ثمن أو ضريبة تلك القرارات من مستقبلهم وأعمارهم واستقرار أسرهم. لقد فرض الكيان الموازي (للدولة والمجتمع) الذي نشأت عليه الحركة الإسلامية خاصة عندما في دخلت مرحلة الصدام مع النظم الحاكمة قدرا كبيرا من السرية والكتمان، رغم أن نشأتها الحقيقية كانت في إطار قانوني علني سلمي، حيث كانت تستهدف دعوة الناس إلى الخير وحضهم على الإصلاح وحتى ممارسة حقهم المشروع في التعبير والدعوة إلى التغيير بالوسائل والطرق السلمية (فهي حركة علنية دعوية سلمية وليس تنظيميا سريا يعيش تحت الأرض). لكن عندما سيطرت مفاهيم الصدام مع الحكام سيطرت مفاهيم السرية، وفي مشاكلة لا محل لها من فقه الشريعة وأصولها تم استدعاء ما يعرف بالمرحلة المكية في تاريخ الإسلام حينما كان الصحابة يتسللون إلى دار الأرقم ليلتقوا برسول الله. ورغم أن تلك الفترة السرية في تاريخ الإسلام كانت استثناء ولم تستمر طويلا حيث لم تكن إلا ثلاث سنوات ثم بعد ذلك طويت صفحتها تماما ولم تتم العودة إليها ولا استصحابها في أي من مراحل التاريخ الإسلامي أو تاريخ الإسلام إلا أن الحركة الاسلامية الحديثة استصحبتها في تاريخها كله وتحولت السرية من فترة زمنية محدودة إلى منهج عمل، وأسلوب حياة، وطريقة فهم، ونمط تلقي. صحيح أن الدول البوليسية التي تعاقبت على حكم أغلب البلدان العربية كرست ذلك النمط الأمني في تتبع الأشخاص وانتهاك خصوصياتهم، وهو ما كرس تلك السرية البغيضة وعمل على تعميقها، إلا أن استمراء الحركة الإسلامية لقضية السرية وتعميمها نمطا عاما في كل أحوالها حتى لو لم تقتض الأحوال هذه السرية أدى إلى تشويهها (أفكارا، ومفاهيما، وأنماط إدارة، وأسالب تعامل، وقواعد تصعيد للأفراد). ففي دهاليز سيطرة أفكار السرية والإسرار يقدم أهل الثقة على أهل الخبرة، ويقدم أهل الولاء المطلق على أهل الأسئلة الذين يريدون أن يستبينوا دقة اتجاه البوصلة، وصحة الطريق، وسلامة مسارات السير. وفي دهاليز سيطرة أفكار السرية والإسرار يقدم أهل الولاء المطلق على أهل الكفاءة والمعرفة، ففي السرية تنتفي المعايير ويصبح الولاء الشخصي هو المعيار الحاكم، وليظل المسئول في موقعه أبد الآبدين يجب عليه أن يختار ممن دونه من هو دونه أهلية وكفاءة حتى لا يزيحه عن مكانه الذي رتب أوضاعه عليه. ولأن كل يعمل على شاكلته تكرست قضية السرية وتم العمل على تعميقها وأن تأخذ أبعادها الشاملة في كل الاتجاهات لتصبح منهج حياة لا علاقة له بالظروف الأمنية التي تمر بها الحركة سواء أكانت ظروف سعة أو تضيق، وتنفصل قضية السرية عن مسبباتها لتصبح هدفا مقصودا بحد ذاته. والسرية هي البيئة الخصبة لحبك الخطط لاستبعاد المخالفين والتضيق على أهل الكفاءة الذين يزعجون أهل الثقة بأسئلتهم الكثيرة عن المعايير والشروط الازمة لصحة السير وعن الأسباب الخفية لتولي معدومي الخبرة والكفاءة لأهم المناصب والمواقع. السرية هي البيئة الخصبة للانحراف المنهجي والفكري والسلوكي. وبعد أن تتكرس قضية السرية وتصبح منهج حياة تنفصل تلك الحركات عن عنصر الزمن فلا تدرك حركته ولا تدرك متغيراته، ولا تدرك أن التطور التكنولوجي الهائل في وسائل الاتصال والتواصل والطفرة الرهيبة التي أصبحت عليها أدوات التجسس وأجهزة المتابعة، جعل مفهوم السر ذاته من المفاهيم التاريخية التي عفى عليه الزمن، ففي العصر الحديث عصر الهواتف الذكية تلاشى مفهوم السر ذاته وأصبح من مخلفات الماضي، فشريحة خط الهاتف وكاميرته وسماعته لم تجعل لمفهوم السر مكانا، وأسألوا الهاكرز المحترفين واسألوا الأجهزة المنوط بها المتابعة تضحكوا من هول ما تكتشفون كيف أصبح الناس عرايا ليس في داخل غرف النوم بل في الشوارع والميادين والمؤسسات العامة حكومة وخاصة. إن تكرس قضية السرية واعتبارها منهج حياة فصل تلك الحركات عن عنصر الزمن فجعلها لا تدرك حجم التشابك الرهيب الحادث بين أجهزة الأمن وأجهزة الاتصال والتواصل وهو ما ألغى كثيرا من مفاهيم عصر سابق كان يمكن الحديث فيه عن مفهوم السر والسرية والأسرار. لقد تلاشى مفهوم السر ذاته، وأصبح السر هو ما لم تنطق به مع نفسك، وليس ما حدثت به أحد، أو كتبته في رسالة وهو الأمر الذي يفرض مراجعة كثير من المفاهيم التقليدية التي حكمت فكر وحركة أغلب الحركات السياسية في العالم الحديث. ملاحظة مهمة: يقول الأستاذ مصطفى محمد الطحان في كتابه: صفات الداعية المسلم، تحت عنوان: بين السرية والعلنية: "وفي الدهاليز تتم المؤامرات وتنحرف الدعوات, باسم السرية تقتل الفضيلة وتشيع الرذيلة, ويحكم على العول ويبرأ المجرمون, ويرتفع الأراذل ويذل الأفاضل. يكفى في أجواء السرية هذه أن تلقى الكلمة.. وتحاط بأجواء خاصة.. لتصبح حقيقة غير قابلة للنقص.. تماما مثل تعاويذ الكهان! فلا قائلها يقدم البرهان.. ولا السادة السامعون يطالبون بالدليل.. وكيف يحق لهم ذلك والأمر في غاية السرية.. باسم هذه السرية وببركاتها قامت أعمق الخلافات التي لا تحل! وأسوأ المعارك التي لا سبب لها!".