عدة مدارس شكلت جوهر العلوم السياسية منها مدرسة توماس هوبز ، الذي رأي أن من حق الدولة فرض أدواتها القمعية لتحويل الدولة من الحالة الطبيعية ( بلا قانون ) إلى حالة الدولة ، و لن يتم ذلك إلا باحتكار العنف و أدوات القمع ، و إلا نشأ خطر حرب الإنسان ضد أخيه الإنسان ، و اختفاء فكرة المواطنة بالتبعية . و استسلم المواطنون لهذه الفكرة لعقود طويلة ، فيما أساء استخدامها حكام دول عدة على مدار عقود طويلة ، فرفل المرضي عنهم في أحضان الدولة ببهجة الحياة محاطين بكل سبل الراحة ، فيما حرم أبناء هذه الشعوب من مقدرات بلدانهم و حتى الى الحق في التطلع إلى ما في أيادي هؤلاء الأسياد ، تحت حكم الحديد و النار .
و استمر الوضع على هذا المنوال ، إلى أن انكشفت ألاعيب الديكتاتوريين ، اما بسبب إهدار الموارد الذي كان النتيجة الطبيعية للطمع البشري و الفساد ، أو بسبب الزيادات السكانية المتتالية ،و تأثير ذلك على استهلاك الفتات الذي تركه الحكام لشعوبهم .
و كنتيجة طبيعية كان لابد لها و أن تطفو على السطح ، انفجرت ثورات العالم الثالث كبركان حمل في أعماقه الكثير من العذاب و الشقاء ، و لم يخرج غاضبا فقط ليصرخ ، و يطفح بأمراضه و فقره و جهله إلى الخارج ، بل كان مدمرا لكل ما تمتع به الأسياد و حرموا منه .
و لأن هناك علم ظهر منذ فترة بعيدة ، يُعنى بالسيطرة على الجموع ، انبرى العديد من المفكرين مثل نعوم تشومسكي في تنبيه الشعوب إلى هذه الألعاب ، و التي مورست فيها الألعاب النفسية بشناعة ، مثل علم السيطرة على الشعب ، وهرم ماسلو ، الذي وضع حاجة الانسان إلى الأمن في سلم هرم الاحتياجات البشرية ، قبل غذاءه الذي جاء في قاع الهرم !
لذا ، كان من الطبيعي ، ان تسمع من يحثك على الصبر على الجوع في سبيل سلامتك و أمنك ، و ان أدى ما يدعون إلى هلاكك الشخصي ، تحت وطأة الجوع و العوز .
و تتحول المجتمعات من الاهتمام بالثقافة و البحث عن معنى الذات و الكون و إعمار الأرض ، إلى مجتمعات بدائية ، لا تتوانى عن اتخاذ أي سبيل في رحلة البحث عن لقمة العيش ، و لو جاءت فاتورة الحساب خالية من الكرامة الانسانية .
عدة مشاهد مؤلمة شهدتها مصر في الأيام السابقة عززت من صحة هذه النظريات ، و التي لم يبخل الاعلام الموجه في بلورتها في اتجاه واحد و هو جلد الذات ، عوضا عن محاسبة المتسبب في افقار الشعب و تجهيله .
فكيف نلوم العامل الريفي ، الذي لم يجد في قريته أماكن آدمية لإخراج فضلاته البشرية بكرامة و آدمية، من التبول على تمثال لأجداده الفراعنة ؟
و كيف نعاتب الجاهل الذي لم يجد أي غضاضة في استخراج تمثال رمسيس ( باهظ القيمة ) الذي هتكت أبعاده ببلدوزر ، و هو لم ير في حياته أو يفهم الاساليب الحديثة في استخراج الآثار ، في حين بات مطمئنا إلى ان الدولة لن تعيره أي اهتمام ، طالما ان المهمة تمت بنجاح ،بغض النظر عن نتائجها .، في دولة ترى أن التعليم لا فائدة مرجوة منه .
و لعل من أبرز المشاهد المؤلمة التي بكيت أنا شخصيا و كل من كان يشاهد معي التلفاز حينها ، هي تلك العجوز التي افترشت تراب الأرض ، تبكي و تبث لها حزنها بصوت نحيب كالأطفال ، لعلها تكون أكثر رقة من القلوب التي تحجرت ،تبكي الحياة التي ضنت عليها حتى بكسرة الخبز ، بفعل اعتياد رؤية مشاهد الموت اليومية ، و لغاب العدل و الاقتصاص من الظالم .
في ذات التوقيت الذي أخرج فيه طارق عامر لسانه إلى المصريين ، و ذهب ليقضي شهر العسل في ألمانيا ، تاركا من ولي عليهم يتساءلون فيما بينهم عن الكيفية العبقرية التي سيتكفل بها مبلغ 300 دولار شهري ( هو حد السحب الدولاري الشهري من بطاقات اللائمان المصرفية ) من تغطية مصاريف اقامته و تنقلاته على أقل تقدير ، وقد تحول الزواج لملايين الشباب إلى مجرد حلم ، في ظل الارتفاعات الرهيبة في الأسعار التي نجمت عن تعويم سعر الصرف .
اما على الصعيد الأمني ، فما استخدم من أدوات قمعية رحب بها مؤسسو العلوم السياسية لبسط الأمن على ربوع الوطن ، لم يجد نفعا ، بل و استخدم فشل الدولة في توفير الشيء الوحيد الذي وعدت به مقابل تحمل نقص الغذاء و الدواء و الحياة القاسية و هو الأمن، في التعلل بترك حقوق الانسان ، بل و الانتشاء من ضياع حقوق الأقلية و التلويح بها مقابل اغلاق هذا الملف الكريه الذي تبغضه كل الأنظمة السلطوية .
اذا المحصلة أضاعت هرم ماسلو من قمته إلى قاعه ، و لم يبق للمصريين شيء يتمسكون به ، غير تبرير عجزهم و قلة حيلتهم ، بلجوئهم إلى حيلة من حيل الدفاع النفسي الشهير ، إلا و هي جلد الذات و طأطأة الرؤوس عن الحقيقة الوحيدة الباقية ;
"من يتخلى عن حريته من أجل تحقيق الأمن فهو لا يستحق حرية و لا يستحق أمنا " بنيامين فرانكلين