قرأت أخيرا دراسة للقيادي البارز بالدعوة السلفية بالإسكندرية المهندس عبدالمنعم الشحات بعنوان ( أساليب نشر العلمانية) منشورة في كتاب بعنوان " معوقات نهوض الأمة " لمجموعة من الكُتاب والباحثين السلفيين من عدة دول ، وصدر عام 2016 عن " مركز ابن خلدون للدراسات الاستراتيجية" بدولة الكويت وهو مركز قريب من " التجمع الإسلامي السلفي " في الكويت ، وينتقد الشحات العلمانيين في دراسته " المنشورة في المحور الثالث من الكتاب- من الصفحة رقم 33 الى الصفحة 65 - ويفند مواقفهم من الدين و من الاتجاه الإسلامي عموما في مصر وفي آخر دراسته يرد على موقف العلمانيين من الأزهر . وحديث الشحات عن العلمانيين والأزهر لم يحمل جديدا في موقفه منهما ، لكن الجديد حقاً و ما لفت انتباهي ، ان روحا توافقية مع المنتج الديمقراطي الغربي العلماني بدأت تسري في طريقة تناول "الشحات" لمصطلح الديمقراطية ومصطلح الدستور ، وإن ظل الشحات على موقفه الرافض لممارسات العلمانية والعلمانيين ، فانه - في صفحة 51 - استثنى من ذلك نظام الحكم الديمقراطي الذي اعتبره ( أفضل ما أنتجه الفكر العلماني الغربي في مجال الحكم) .
ويُعد هذا بنظري تغيرا في موقف " الشحات " من الديمقراطية كمنتج علماني بمعدل 180 درجة ، فانتقل الرجل من موقف التحريم والرفض الكامل للديمقراطية الى المادح لها باعتبارها أفضل منتجات الفكر العلماني وكذلك انتقل " الشحات " من الموقف الرافض لكل منتجات الفكر العلماني الى متقبِّل لمنتجه الأشهر وهو الديمقراطية .
وتلك الروح غير الصدامية مع الديمقراطية في دراسة "الشحات "- وغير المعهودة على أدبيات الدعوة السلفية في مصر التي اعتدنا على انها تُنفر من نظام الحكم الديمقراطي - ربما تكشف عن مراجعات فكرية قد حدثت وان تطورا تراكميا قد حدث في عقيدة مفكري ومنظري الدعوة السلفية في مصر والدليل حدوث تغيير في طريقة تعاطيهم مع الديمقراطية والدستور والقوانين ، بقبولهم من حيث المبدأ لفكرة الديمقراطية وعدم تحريمها عكس مواقفهم العدائية السابقة مع اي منتج ديمقراطي غربي .
وما شغلني في دراسة "الشحات" هو المصطلح والاسلوب الذي يستخدمه ، باعتبار الرجل من أبرز وجوه ورموز ومنظري الدعوة السلفية في مصر ، وبدا واضحا لمن يطالع دراسته - التي نُشرت خارج مصر - ان "الشحات " المعروف عنه الصدام التام مع الديمقراطية عندما يتحدث عنها ، بدأ يغير موقفه بنسبة كبيرة .
فالرجل لم يعد رافضا للديمقراطية بنسبة 100 ٪ كما كان قبل ثورة يناير 2011 حيث توجد محاضرة " فيديو " له في اكتوبر 2010 عن مقاطعة الانتخابات ، أكد فيها رفضه للنظام الديمقراطي وحرم الديمقراطية تماما واعتبرها نقيض النظام الاسلامي ورفض وجود الأحزاب بصفة عامة ، كما لم يعد أيضا " الشحات " كما كان بعد ثورة يناير 2011، رافضا للديمقراطية الغربية لانها علمانية ومتقبلا للنموذج المصري لها فقط لان الدستور المصري يعتبر الشريعة الاسلامية المصدر الأساسي للتشريع كما قال في لقاء متلفز بقناة النهار الفضائية في نوفمبر 2011 ، وذلك بعد ممارسة الدعوة السلفية للعمل السياسي الديمقراطي منذ ثورة يناير 2011 بتشكيل حزب سياسي ، ثم تحسن موقف الرجل بعد خوض الدعوة السلفية الانتخابات البرلمانية باسم " حزب النور " اكثر من مرة ووجود نواب لهم في البرلمان كما ان "الشحات" ذاته خاض تجربة الانتخابات البرلمانية في الاسكندرية لكنه لم يوفق .
والجديد الآن ان موقف "الشحات" المبدئي من "الديمقراطية الغربية العلمانية" تغير بمعدل 180 درجة تقريبا، فانتقل الرجل من العداء لها الى التوافق مع آلياتها في الممارسة ثم وصل بعد دراسته الأخيرة هذه الى التوافق مع النظام الديمقراطي الغربي العلماني وهو توافق على مستوى التنظير والممارسة معا ، بمعنى ليس فقط قبول رموز السلفيين مضطرين بادوات الديمقراطية باعتبارها الوسيلة الوحيدة للتواجد على الساحة وحماية " الدعوة السلفية" ذاتها مع استمرار رفضهم الفكري للنظام الديمقراطي ، بل وصلنا الى مرحلة الاشادة بالنظام الديمقراطي بل واعتباره ( أفضل ما أنتجه الفكر العلماني الغربي في مجال الحكم) ،وهذا يعد بنظري تطورا غير مسبوق في أدبيات الدعوة السلفية في مصر التي كانت تحرم الديمقراطية تماما.
وبمطالعة دراسة " الشحات " وبمقارنتها بمحاضراته قبل ثورة يناير 2011 وبعدها والمنشورة بمواقع الفيديو ، نجد انه غير موقفه المبدئي تماما وبنسبة 100 ٪ من رفض لمقولة " الديمقراطية الاسلامية " التي رفعها الاسلاميون من غير السلفيين ، وبات الشحات الان يتبنى ذات مواقف من انتقدهم في السابق بسببها ويتحدث في دراسته الاخيرة عن " أسلمة الديمقراطية "، بل وينتقد العلمانيين في مصر لأنهم يتصدون لمحاولات اسلمة الديمقراطية وأسلمة الدساتير .. ولا شك ان استخدام الشحات لمصطلحات (أسلمة الديمقراطية ) و ( أسلمة الدساتير ) و "أسلمة القوانين " يشير الى ان وراء ذلك اما مراجعات فكرية او تراجعات باعتبارها من متطلبات المرحلة ، وإلا كيف لمنظر السلفية الاول يغير موقفه من تحريم الديمقراطية ورفضها بالكلية ورفض منتجات الفكر العلماني الغربي بالكامل ، الى ان يقول " الشحات " صراحة : ان ( نظام الحكم الديمقراطي هو أفضل ما أنتجه الفكر العلماني الغربي في مجال الحكم ) ؟!!!!
وبذلك فان القيادي السلفي عبدالمنعم الشحات تقدم الى الامام خطوات وخطوات بقبوله بفكرة الديمقراطية ونظام الحكم الديمقراطي ، بل وشن هجوما شديدا على العلمانيين في منطقتنا واتهمهم بالتصدي لأسلمة الديمقرطية والتصدي لأسلمة الدساتير والقوانين ..
فهل كلام "الشحات" والتغير الواضح في اُسلوب تناوله لموضوع الديمقراطية يكشف عن مراجعات فكرية أجريت وادخلت على ادبيات الدعوة السلفية في مصر لتختفي مصطلحات تكفير الديمقراطية ويختفي اُسلوب السلفييين المعروف عنهم في كتبهم بتحريم كل الوسائل الديمقرطية ؟ وهل السلفيون صادقون في هذه المراجعات لموقفهم من الديمقراطية وانهم باتوا عقائديا مقتنعين بان الديمقراطية حلال وليست كفرا ؟ ام أن الأمر مجرد مهادنة مؤقتة مع السلطة ومحاولة تهدئة هجوم التيارات الاخرى عليهم ؟ ام هي محاولة لاتخاذ الديمقراطية مثل " الجسر " يعبرون عليه لتحقيق اهدافهم المعلنة وغير المعلنة ومن ثم تفكيك الجسر والعودة لتكفير الديمقراطية مرة اخرى ؟!!!
الأيام وحدها ستكشف عن الحقيقة .... وان كنّا نرحب بتلك المراجعات والمواقف التي ستساهم في اندماج الإسلاميين اكثر وأكثر في العملية السياسية والديمقراطية بما يخدم المجتمع وبما يحافظ على القيم الدينية والأخلاقية ويحفظ حقوق البلاد والعباد ، وحتما سيؤدي ذلك الى تراجع الأفكار المتطرفة بين الشباب وسيادة روح وافكار التعايش مع الآخر .