صدر مؤخراً كتاب "الزنكيون فى عيون ابن الأثير" عن دار "صفحات" بدبى، فى 336 صفحة، وهو فى الأصل رسالة علمية حصل بها الباحث "علاء مصرى إبراهيم النهر" على درجة الماجستير من قسم التاريخ والأثار المصرية والإسلامية بكلية الأداب جامعة الأسكندرية وعنوانها "ابن الأثير مؤرخاً للدولة الزنكية من خلال كتابه التاريخ الباهر" بإشراف الدكتور حمدى عبدالمنعم محمد حسين والدكتورة حنان اللبودى، وفيه تأريخ للدولة الزنكية التى ظهرت فى الموصل على يد عماد الدين زنكي (521-541ه/1127-1146م)، ومن بعده ابنه نور الدين محمود الشهيد (541-569ه/1146-1173م) من خلال كتاب ابن الأثير الجزرى (ت 630ه ) "التاريخ الباهر"، فقد بذل هذان الملِكان جهودًا عظيمة في قتال الصليبيين، الذين اجتاحوا سواحل الشام فى نهاية القرن الخامس، وأسسوا ممالكهم ومن أشهرها مملكة بيت المقدس، فى وقت كانت عوامل الضعف المختلفة تسطر على العالم الإسلامى؛ وعلى الدولة الفاطمية، فقد اتجهت إليها أنظار الفرنج، بعد أن وقف السلاجقة والأتابكة حصنًا منيعًا أمام تقدمهم إلى داخل بلاد الشام، كما اتجهت إليها أنظار هذه الدول التركية الإسلامية السُّنية؛ رغبةً في القضاء على آثار المذهب الشيعي قضاءً مبرمًا، وتعاون مع هذه العوامل عاملٌ داخلي له أهميته، وذلك حين نشب الخلاف وقام التنافس على الحكم بين وزراء مصر، الذي أدى إلى فرار شاور إلى الشام واستنجاده بنور الدين محمود، ثم وفود جيوش نور الدين إلى مصر بقيادة أسد الدين شيركوه، وما استتبع هذه الوفود من مجيء جيوش ملك بيت المقدس؛ سعيًّا وراء مُلك مصر. وتكررت غارات الجيش النوري والفرنجي على مصر ثلاث مرات، إلى أن انتهت بانتصار جيش نور الدين، وتولية أسد الدين الوزارة للعاضد آخر الفاطميين، ولكن مات بعد شهرين، فوليها من بعده صلاح الدين الأيوبي. والمؤرخ عز الدين أبوالحسن بن الأثير الجزرى (ت631ه) ينتمى إلى أسرة علمية نشأت فى جزيرة ابن عمر بالموصل، وقد احتل مكانةٍ مرموقة في تاريخ الفكر البشري عمومًا والتاريخ الإسلامي خصوصًا، فقد خلف المصنفات الرائدة فى التاريخ منها كتابه "الكامل فى التاريخ" وهو فى التاريخ الإسلامى العام مثل كتاب "تاريخ الأمم والملوك" لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى (ت310ه)، وخلف أيضاً كتاب "اللباب فى تهذيب الأنساب" وهو اختصار لكتاب "الأنساب" للسمعانى، وكتاب "أسد الغابة فى معرفة الصحابة"، ثم كتابه "التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية" الذى أرخ فيه لأسرة آل زنكى فى الموصل وقد كان لهذا الكتاب من الأهمية البالغة على الكتابات التاريخية التي لحقته، ككتابِ "الروضتين ِفي أخبارِالدولتينِ النوريةِ والصلاحيةْ" لأبي شامةِ، وكتابِ "مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بني أيوب" لابن واصِل، وما تميز به منهجه في الكتابة التاريخية من ميزات، ولكون "التاريخ الباهر" من المصادر الرئيسة عن الزنكيين، ومرآة تعكس أصدق صور جهادهم للفرنج. وقد أرخ ابن الأثير للدولة الأتابكية حتى سنة 608ه وسار على منهج أبى إسحاق الصابىء (ت384ه) فى كتابه "التاجى فى أخبار بنى بويه"، ويقرر الباحث أن هناك تشابه بين الدوافع التى جعلت ابن الأثير يؤلف كتابه "التاريخ الباهر" وبين مؤرخ الأندلس لسان الدين بن الخطيب فى تأليفه لكتاب "أعمال الأعلام". فكل منهما أهدى كتابه إلى ملك صغيرالسن وتقرباً من الوصى عليه، فابن الأثير ألف كتابه كهدية للملك الزنكى عزالدين مسعود الثانى الذى كان فى سن العاشرة عند ولايته حكم الموصل، وتقرباً من نائبه بدر الدين لؤلؤ، بينما ابن الخطيب أهدى كتابه إلى الملك المرينى أبى زيان محمد السعيد بالله الثالث بن عبدالعزيز (774- 776ه) الذى كان يبلغ الرابعة عند توليه الحكم بفاس وللتقرب من وزيره أبى بكر بن غازى بن الكاس. وقد ظهر المؤلف فى عصر ازدهرت فيه الكتابات التاريخية وذلك فى القرنين السادس والسابع الهجريين(الثاني عشر والثالث عشر الميلاديان)، وبخاصة بعد النصف الثاني من القرن السادس الهجري، من أكثر الفترات التاريخية ازدهارًا ونشاطًا في حقل الكتابة التاريخية؛ حيث لم تكنْ هناك كتابات كثيرة في المرحلة الأولى من الغزو الفرنجي. أما في المرحلة المتقدمة من الغزو، فقد ظهرت مؤلفات تاريخية مهمة في معظم أرجاء العالم الإسلامي بالعراق والشام ومصر. وأسهمت عوامل عدة في ظهور هذه المؤلفات، ولعل في مقدمتها الغزو الصليبى للمشرق الإسلامي؛ مما دفع كثيرًا من المؤرخين للكتابة؛ محاولة منهم لتغطية أحداث هذه الفترة الحرجة، كما أسهمت حركة الجهاد التي قادها عددٌ كبير من المسلمين، وعلى رأسهم عماد الدين زَنكي، وابنه نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، في ظهور كُتب السِّير الشخصية لهؤلاء القادة، وكُتب تاريخ الدول والأسر الحاكمة، وظهور مؤلفات عن فضائل المدن. وقد أدى ذلك إلى ازدهار المدرسة التاريخية في بلاد العراق والشام، وزيادة نشاطها. وقد قسم الباحث هذه الدراسة إلى مقدمةٍ، ودراسة تمهيدية، وخمسة فصولٍ، وخاتمة. وجاءت الدراسة التمهيدية بعنوان "المؤرخ ابن الأثير: دراسة حياة"، واشتملت على اسمه، ولقبه، ومولده، وأسرته العريقة، ومكانة والده أثير الدين وأخيه الأكبر مجد الدين لدى حكام الدولة الزنكية بالموصل، بالإضافة إلى شيوخه، وتلامذته، ورحلاته العلمية، وحجه ثلاث مرات، ومؤلفاته العلمية الأربعة التي تبرز سَعة اطِّلاعه في علم التاريخ والحديث والسِّير والأنساب. وتناولت الدراسة التمهيدية أيضًا ثقافة وفكر ابن الأثير التاريخي، ومكانته العلمية والاجتماعية، ووفاته. وقد حمل الفصل الأول عنوان: "نظم الحكم والإدارة في الدولة الزنكية، من خلال كتاب الباهر"، استهل بلمحةٍ سريعة عن أصل الزنكيين، ثم ألقى الضوء على نظام الأتابكية، ومراسم ولاية الحكم، والألقاب الملكية، وطرق ولاية الحكم، ونظام ولاية العهد، والحاشية الملكية، ثم تطرق إلى الوظائف الإدارية كالنائب والوزير وكُتّاب الإنشاء، كذلك تناول الدواوين (الإنشاء – البريد – الجند)، بالإضافة إلى النظامين المالي والقضائي، والنظم العسكرية بما فيها الوظائف، والإقطاع، وتنظيم الجيش، وعناصره، ومعسكراته، وأسلحته. أما الفصل الثاني، فجاء بعنوان: "العلاقات السياسية بين الدولة الزَّنكية والقوى المجاورة، من خلال كتاب الباهر"، فقد كان للزنكيين علاقات مع مختلف القوى السياسية المتواجدة على الساحة في تلك الفترة، وتقلبت علاقاتهم بتلك القوى ما بين التعاون المثمر والتوتر الشديد في بعض الأحيان، ومن أبرز القوى التي أقام معها الزنكيون علاقات: (الدولة السَّلجوقية، والخلافة العباسية، والأُراتقة بديار بكر، وآل بُورى أتابكة دمشق، والأيوبيون ببلاد الشام). ثم الفصل الثالث، بعنوان: "دور الدولة الزنكية في جهاد الفرنج، من خلال كتاب الباهر"، سلط الأضواء على دور عماد الدين زنكي في تحرير إمارة الرُّها، وانتصار ابنه نور الدين محمود في معركة حارم ضد الفرنج، وإضاعته الفرصةَ على الملك عموري (الأول) في ضم مصر إلى مملكة بيت المقدس الفرنجية، وتضمن الفصل كذلك أهم أساليب القتال التي اتّبعها الزنكيون في جهاد الفرنج. أما الفصل الرابع، فهو بعنوان: "الحياة الفكرية في الدولة الزنكية، من خلال كتاب الباهر"؛ حيث تناول عوامل ازدهار الحياة الفكرية، وتشجيع الزنكيين للعلم والعلماء، وأهم المراكز التعليمية خلال العهد الزنكي كالمساجد، والمدارس، والخوانق،والرُبُط،ودار الحديث النورية، والبيمارستان النوري بدمشق. كما اشتمل على ميادين العلوم وأبرز أعلامها في الدولة الزنكية كالعلوم الشرعية (الفقه والحديث)، بالإضافة إلى التصوف، وعلوم الطب، والأدب. بينما جاء الفصل الخامس والأخير تحت عنوان: "دراسة تحليلية نقدية مقارنة لكتاب التاريخ الباهر لابن الأثير مع كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليُوسفية لبهاء الدين بن شداد"، بدأ بإلقاء إطلالةٍ خاطفة على الفكر التاريخي في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجريين (الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين)، ثم تطرق إلى موارد ابن الأثير في كتابه "الباهر"، ومنهجه في الكتابة التاريخية، وأسلوبه، وتفسيره للأحداث، وموضوعيته، ثم خُتم الفصل بعقد مقارنة بين كتاب "التاريخ الباهر" لابن الأثير، وكتاب "النوادر السلطانية" لابن شداد.