أخيرا تم الانتهاء من قانون تنظيم بناء الكنائس وحصل على موافقة برلمانية وتم رفعه لرئيس الجمهورية لإصداره ، وهي خطوة إجرائية عادية ولكن مهمة وتأخرت كثيرا ، لكن المهم أنها تمت ، ولاحظت أن البعض حرص على أن تتم في صورة زفة سياسية باعتبار أنها إنجاز تاريخي ! ، ووقف رئيس البرلمان على المنصة يحمل علم مصر ويهتف تحيا مصر وعاش الهلال مع الصليب ، والحقيقة أن الهلال يعيش مع الصليب في مصر قبل أن يولد الدكتور علي عبد العال بألف وأربعمائة عام ، والكنائس تبنى وتتمدد والأديرة تتوسع بصورة لا مثيل لها في العالم من قبل هذا القانون ، ولم يكن يليق بمقام رئاسة البرلمان أن تختلق تلك المظاهرة غير اللائقة بعد إتمام قانون لتنظيم بناء بعض دور العبادة . القانون لم يرض قطاعا من المسلمين ، باعتبار أنه حمل مجاملة للأقباط ، وربما سداد فواتير سياسية ، ورفض أعضاء حزب النور في البرلمان المشاركة في التصويت وبعضهم انسحب من الجلسة ، لكن الغريب أن تكون هناك بعض الأصوات المسيحية التي تعترض على القانون وتهاجم الدولة والكنيسة معا ، باعتبار أن هذا القانون لا يساوي بين المسلمين والمسيحيين في بناء دور العبادة ، رغم أن الدولة كانت أكثر استعجالا في قوانين وإجراءات حظر بناء المساجد في السنوات الأخيرة والتضييق عليها ووضع شروط قاسية لإنشائها ، والأغرب أن بعض الإخوة الأقباط رأى أن وضع "ضوابط" لبناء الكنائس فيه إجحاف وتضييق لحرية العبادة ، ورفضوا أن توضع شروط للمساحة المناسبة لأهالي المنطقة مع مراعاة التمدد السكاني ، كما رفضوا اعتبار الحاجة السكانية لدار العبادة في الحي أو المنطقة التي يراد فيها إنشاء كنيسة ، إذ لا يعقل أن تأتي في قرية لا يعيش فيها مسيحي واحد ثم تقول أنك بحاجة إلى إنشاء كنيسة فيها على خمسة آلاف متر مربع ، وقالوا أنه لا يوجد إحصاء سكاني رسمي في مصر منذ أكثر من عشرين عاما ، وهذا صحيح ، لكن معرفة الجغرافية السكانية في منطقة محددة لا تحتاج إلى إحصاء رسمي شامل للدولة ، فأهالي كل منطقة يعرفون ذلك بداهة بحكم الجيرة وأغلب قرى مصر يعرفون جيرانهم الأقباط بالاسم والعدد والشارع والحارة ، وأي لجنة إدارية صغيرة تستطيع أن تحصي الأمر بسهولة وخلال يومين فقط . المشكلة أن بعض الأصوات المتعصبة بين الأقباط تتصور أن حرية العبادة تعني أنه إذا أشار رجل دين مسيحي بأصبع يده على أرض ما أو منطقة ما أصبحت إشارته مقدسة دينيا ، ويلزم أن تنشأ كنيسة في الحال في الموضع الذي أشار إليه وبدون أي مراجعة أو نقاش ، إشارته هي القانون وهي النظام ، وهذا تصور لا وجود له في أي دولة في العالم كله ، فسواء في أوربا أو أمريكا أو استراليا هناك دائما إجراءات منظمة لإنشاء دور العبادة ، وكثيرا ما يتم رفض الطلبات لإنشاء مساجد في العواصم والمدن الأوربية لاعتبارات سكانية أو هندسية أو اجتماعية ، دون أن يوصف ذلك بأنه محاصرة لحرية العبادة أو تضييق عليها ، بل إن أغلب المدن الأوربية يكون الحصول على ترخيص ببناء مسجد فيها أصعب ألف مرة من حصول الأقباط في مصر على تصريح بناء كنيسة ، وفي بعض البلدان الأوربية العريقة في ديمقراطيتها وعلمانيتها احتاج أمر السماح ببناء مآذن وقباب للمساجد إلى استفتاء رسمي عام للسكان ! . لم تطرأ تلك المشكلة في مصر بهذه الضخامة إلا في العقود الأخيرة عندما انتشر التطرف الديني ، سواء في الجانب الإسلامي أو الجانب المسيحي ، وهناك متطرفون مسيحيون يتعاملون مع دور العبادة باعتبارها "أعلاما" أو رايات طائفية لإضفاء صبغة دينية ما على منطقة أو قرية أو شارع أو على جغرافيا الوطن بشكل عام ، وليس باعتبارها حاجة دينية فعلية للعبادة ، كما أن عددا ليس قليلا من رجال الدين وبعض المتطرفين الأقباط حاولوا في غفلة من الدولة والقانون أن يقيموا دور عبادة بدون أي تصريح أو إذن قانوني ، وهناك آلاف المخالفات الإنشائية بسبب هذا السلوك ، وهي مخالفات تتسبب عادة في فتن طائفية كان الوطن في غنى عنها ، لو أن الجميع عمل في النور واحترم القانون والنظام العام ، وليس مجرد فرض أمر واقع وخداع النظام والقانون أو اللجوء إلى تحويل مباني سكنية خلسة إلى منشآت دينية . لقد وصل الحال بالدلال الطائفي إلى أن تدخل الدولة في مفاوضات طويلة مع رجال دين أقباط لمنعهم من الاستيلاء على آلاف الأفدنة في الفيوم من أراض الدولة ، مال الشعب ، لتوسعة دير هناك ، ليس فقط لأن الأرض مغتصبة وهي مال عام ، وإنما لأنها أراض مصنفة ضمن نطاق المحميات لاحتوائها على آثار ، فهي منطقة أثرية لا يجوز البناء فيها أو التصرف حتى للحكومة ذاتها ، وما زالت الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها حتى الآن تترجى وتتوسط لدى المراجع الكنسية من أجل حل الإشكال ، هذا لا يمكن تصور حدوثه في أي دولة ، ولا حتى الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها .