غبت عن هذه الزاوية وقرائها الكرام حوالي خمسة أيام ، قضيتها في المغرب الشقيق ، بدعوة من معالي الوزير محمد بن عيسى للمشاركة في مهرجان أصيلة الثقافي السنوي المعروف ، وقد فضلت أن لا أحمل معي في سفري هذه المرة جهاز الكومبيوتر ، شعرت بالحاجة إلى الهرب من الكتابة ومن الكومبيوتر ومن التوتر العصبي المستدام مع الكتابة أو التجهيز للكتابة أو حتى متابعة شأن صحيفة وموقف إخباري على مدار الساعة ، منحت نفسي فيها إجازة "مشروعة" عدة أيام ألتقط أنفاسي وأستعيد عافيتي النفسية والذهنية ، لأن كمية الكآبة والتعاسة في البلد من الثقل بما يجعلك يوميا في ألم دائم ونكد وإرهاق ، ولم أصحب معي سوى كتاب المرحوم محمد سعيد العريان "حياة الرافعي" وكان نعم الرفيق . ملتقى أصيلة الثقافية هو تظاهرة سنوية أصبح لها حضور دولي لافت ، ويشرف عليه بصفة أساسية الوزير السابق محمد بن عيسى ، وهو شخصية ليبرالية أكثر اعتدالا من ليبراليي المشرق ، لأنه أكثر امتلاءا ثقافيا ومعرفيا ، فهو مثقف حقيقي ، ومن نوع غريب ، يمكن أن تقول أنه "جرامشي اجتماعي" ، فهو أخذ من جرامشي فكرة المثقف العضوي المتفاعل مع واقعه والمؤثر والمناضل من أجل التغيير ، لكنه لم يكن ثوريا في يوم من الأيام ، فهو ابن دواوين الدولة وأروقة السلطة في أعلى مستوياتها ، ولكن نضاله كان في الفضاء الاجتماعي والتنموي ، حيث جعل مشروع عمره الثقافي في تطوير مدينته الصغيرة "أصيلة" في شمال البلاد ، وقد كانت تلك المدينة أو القرية الكبيرة قبل ثلاثين عاما حالة من البؤس والتخلف والعشوائية والفقر وغياب شبه تام للبنية الأساسية ، يحكي لي من عاشوها أن الناس كانت تقضي حاجتها في الخلاء ، لأنه لم يكن في المدينة صرف صحي ولا خدمات طرق وماء وغير ذلك من "ضرورات" الحياة ، فتفتقت أفكار بن عيسى ، وهو ابن تلك المدينة ، عن مشروع شامل لتطويرها ، استثمر فيه علاقاته الدولية المتشعبة كديبلوماسي عريق ، عمل سفيرا لبلاده في الولاياتالمتحدة وفي الأممالمتحدة وفي إيطاليا وعواصم أخرى ، كما عمل وزيرا للثقافة ووزيرا للخارجية ، استثمر كل تلك الخبرات في دعم مخطط تطوير المدينة ، من خلال المنظمات الدولية المعنية بالتراث الإنساني ، وتلك المهتمة بأفكار التنمية ونحو ذلك ، وبما له من علاقات خليجية جيدة ساهمت دول عدة هناك مثل السعودية وقطر والإمارات في دعم مشروعه دعما عينيا ، من خلال إنجاز بعض المؤسسات والمنشآت ، مثل مركز ثقافي فخم أسسه الأمير بندر بن سلطان على نفقته وتطوير قصر الثقافة ومنشآت أخرى ، وعقد للمدينة الصغيرة مهرجانا ثقافيا سنويا نجح في أن يأتي من خلاله بنخبة رفيعة على المستوى العالمي والعربي لندواته فأتت في ركابها الصحف والتليفزيونات رغبا أو كرها ، كذلك أحضر فنانين كبارا في مختلف قطاعات الفن مما كان له صدى كبير ، حول المدينة المجهولة والتعيسة بجدران منازلها التي تحولت للوحات فنية وشوارعها التي وصلت الماضي بالحاضر إلى قصة ثقافية وفنية وتراثية لها شهرة كبيرة . أريد أن أستغرق في الحديث عن هذه التجربة ، لأنها ملهمة بالفعل وأدهشتني جدا ، وأنا متحمس لنقلها للمشرق ، ودعوة النخبة التي أتيح لها مثل ما أتيح لمحمد بن عيسى أن تتولى تطوير مدنها وقراها ذاتيا ، لأنها فكرة بسيطة وليست مستحيلة ، تحتاج ثقة وصبرا وعزما واستثمارا ذكيا للعلاقات العامة من أجل منفعة عامة ، كما تحتاج إلى تواصل حقيقي ومستمر بين المثقف ومدينته أو قريته ، وقد قال لي بن عيسى عندما سألته عن سر نجاحه ، أنه في إقامته في المدينة فترات طويلة كساكن وليس سائحا ، وله فيها بيت أنيق ومتخم بالتراث المغربي في تصميمه وأثاثه وزينته ، ولعلي أعود إلى الكتابة بتفصيل عن هذه التجربة لأنها مهمة بالفعل . في موضوع "الحوكمة والمجتمع المدني" كانت مشاركتي ، هكذا حددتها اللجنة المنظمة ، وتحدث في نفس الإطار من مصر أيضا الدكتور مصطفى حجازي مستشار رئيس الجمهورية السابق والدكتورة أنيسة حسونة عضو البرلمان ، وفي موضوع الدين والدولة تحدث من مصر الدكتور عمرو الشوبكي ، وفي موضوع المجتمع المدني قدمت ورقة فكرية يبدو أنها أزعجت بعض "اليساريين" المغاربة المشاركين ، عندما قلت أن انحراف العلمانية العربية بيسارييها وليبرالييها وقطيعتها المفتعلة مع التراث كانت سببا رئيسيا في مولد الإرهاب والتطرف في العالم الإسلامي ، ولعلي أعرض له في مقال قادم بإذن الله ..