ينقسم النفاق في مصر إلى أنواع , بعضها موروث و بعضها مستحدث , بعضها تمليه ضغوط قاهرة , و بعضها يمضي بصورة مجانية _ دونما ضغوط _ لمجرد الاحتفاظ بموطيء قدم في الكعكة ( المستقبلية ) , و في كل الأحوال تتسع طقوس حرق البخور , يمينا ً و شمالا ً , على نحو يماليء السلطة لتذكيرها بولاء من ينافق أو سعيا ً إلى حظوة أو مكسب ! و قد كان نفاق ( المجلس الأعلى للثقافة ) جامعا ً _ ببلاغة رفيعة لكل أنماط النفاق و أنواعه ! كان حكم ( القضاء الإداري ) الأحدث بشأن ( تيران و صنافير ) , زلزالاً من العيار الثقيل الذي هز دوائر الدولة , و أربك مساراتها , و أبرق بأسوأ الرسائل الوطنية السلبية حيث وجدت السلطة , التي وقعت بالفعل اتفاقات ترسيم الحدود البحرية مع ( المملكة السعودية ) , تاركة الجزيرتين للمملكة , أقول وجدت السلطة نفسها _ و بحكم قضائي موثق _ في قفص الإدانة و الشجب ( في المستوى المعنوي على الأقل ! ) حين حكم القضاء الإداري ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود في مجموعها , ووجدت السلطة نفسها , بالقدر ذاته , مضطرة لأن تمضي في طريق ( الاستخذاء ) و الخذلان بمباشرة عمل غير طبيعي , لا تمارسه أية حكومة على ظهر خارطة الأطلس , بمعنى مواصلة النزاع القضائي في أروقة ( مجلس الدولة ) لإثبات ( سعودية ) الجزيرتين , لا مصريتهما !أو بمعنى آخر الدفاع عن حق دولة أخرى في تملك الجزيرتين المنتميتين _ بالتاريخ و الوثائق _ للتراب المصري الوطني ! ووجدت السلطة ذاتها _ في منحى مغاير _ مطالبة بتقديم غطاء قانوني تبريري في الداخل و الخارج , لتسويغ حالات الاحتجاز الهائلة التي طالت شبابا ً مصريا ً غضا ً خرج إلى الميادين متظاهرا ً , مطالبا ً بحق مصر في الجزيرتين , و تصرفت السلطة _ بغطرسة الأباطرة _ فلم تعد إلى الشعب مطلقا ً في الأمر برمته و بادرت باستيداع ( الجزيرتين ) في ورق سلوفان ووضعهما على طبق الهدايا و كأن مسطح مصر عبارة عن صحراء ممتدة لا يقطنها شعب من الشعوب ينبغي أن ترجع إليه السلطة ! كانت عملية المجاملة للسلطة _ في أعقاب توقيع الاتفاقية مع المملكة _ متوزعة على نمطين كبيرين من المجاملات الإكروباتية المتملقة ( أو لنقل حرق البخور ! ) , فثمة مجاملات استهدفت إعفاء السلطة من حرج الظهور بمظهر المفرط في قطعة من التراب الوطني , باشرها ( أفراد ) ( مصطفى بكري نموذجا ً ! ) , و ثمة مجاملات قادتها ( مؤسسات ) بهدف منح العصمة للسلطة تماما ً في مسألة التنازل عن الجزيرتين , و كان ( المجلس الأعلى للثقافة ) في صدارة المؤسسات ( المتملقة ) التي باشرت رياضة الإكروبات و النط و القفز في الهواء حرقا ً للبخور و نفاقا ً للسلطة بمباركة تصرفها المتسرع / المستخفي في موضوع الجزيرتين ! كان هجومي الدائم على سياسات ( المجلس الاعلى للثقافة ) و الذي يمثل منطقة القلب من هذا الكيان الديكوري المسمى وزارة الثقافة , اقول كان هجومي على ( الأعلى للثقافة ) مستندا ً في الغالب إلى أسباب متنوعة تتعلق بالفساد , من قبيل تسكين أحد موظفي المجلس على سبع و عشرين وظيفة _ على الورق ! _ لضمان حصوله على ( البدلات ) ! _ و هي واقعة لا تحدث حتى في جمهوريات الموز , أو لأسباب تتعلق بانعدام الكفاءة و الضحالة , إذ يفترض الانخراط في عضويات اللجان داخل المجلس الافتقار إلى بعض ( التملق ) لكهنة المعبد داخل اللجان أو حمل الحقائب لبعضهم _ متى لزم الأمر _ بقطع النظر عن الكفاءة و درجة التأهيل و من ثم أصبح الطريق ممهدا ً أمام فيالق ضخمة من حملة المباخر و المطبلين و حاملي الحقائب , و هم فعليا ً بلا أي منجز , و بقي المبدعون الحقيقيون خارج أسوار ( الأعلى للثقافة ) لأنهم لم يقرأوا حرفا ً واحدا ً في كتاب تقديم القرابين و حرق البخور ل ( كهنة المعبد ) , الذين عمروا داخل اللجان عقودا ً حتى عطنوا على الكراسي و زكمت رائحتهم الأنوف _ من فرط اللصوق بكراسي اللجان _ دون أن يقدموا للثقافة المصرية مخترعا ً واحدا ً نابها ً تبنوه أو شاعرا ً موهوبا ً أماطوا اللثام عن موهبته أو روائيا ً عبقريا ً أضاءوا تجربته للرأي العام , تجتمع لجانهم و تحتسي ( الكاباتشينو ) ثم تنفض و تحصل على بدلات الجلسات و الاجتماعات , دون أدنى فائدة أو عائدة يمكن أن يفيد منها المصريون ! و قد كان هجومي على لجان الأعلى للثقافة منذ سنوات مستندا ً كذلك إلى غلبة جيل بعينه على تكوين اللجان ( أعني الستينيين في الأغلب ) و من ثم أصبحت معضلة هذا المبنى القابع في ( دار الأوبرا ) مركبة معقدة لا يجدي معها الرتق أو الترقيع بل تغيير اللائحة و إعادة الهيكلة و إبعاد ( كهنة المعبد ) الذين يقبضون بأظافرهم على رقاب اللجان دون حياء أو منجز أو معنى ! و كان أحدث ظهور ل ( المجلس الاعلى للثقافة ) في مشهد ( التملق ) للسلطة في قضية الجزيرتين , حين بادرت ( لجنة الجغرافيا ) _ و هي إحدى لجان المجلس _ إلى عقد ندوة ثقافية , بالتنسيق مع ( الجمعية الجغرافية ) , حيث كان عنوان الندوة : ( ملتقى الحدود الشرقية لمصر : جغرافيا ً و سياسيا ً ) و حشد الأعلى للثقافة حشده في عملية إنقاذ فاشلة للسلطة , حيث استهدف المجتمعون في الندوة إثبات ( سعودية ) الجزيرتين ( نعم سعودية الجزيرتين ! ) ,و زفوا _ بارك الله في خطواتهم الميمونة ! _ للرأي العام اكتشافهم ( اللولبي ) بأنه بمراجعة الوثائق المتصلة بحدود مصر الشرقية منذ 1906 حتى الآن ثبت لبصرهم و بصيرتهم أن الجزيرتين سعوديتان _ بلا أدنى شائبة _ و أن السعودية ترخصت بالسماح لمصر في التصرف في الجزيرتين عام 1950 ! و لم يساند المثقفون الكبار في الأعلى للثقافة موقفهم بأي مستند , بل مضوا في طريق ( استحمار ) الرأي العام و استغبائه , بالتأكيد على القرار الجمهوري رقم 27 لسنة 1990 , و الذي منح الجزيرتين _ بإرادة ( مباركية ) مقدسة مصونة _ للجانب السعودي ! و لم يعن المجتمعون في الأعلى للثقافة بسؤال جوهري : ( أين الوثائق ) ؟! أدار الندوة الكارثية أ / ( فتحي أبو عيانة ) مقرر ( لجنة الجغرافيا ) بحضور حشد مخجل من أساتذة الجامعات و المتخصصين في الجغرافيا ! و السؤال الآن : ما موقف هذا الكيان الضحل المسمى المجلس الأعلى للثقافة , بعد تأكيد ( القضاء الإداري ) بأحقية مصر في الجزيرتين ؟ ! و كيف سيتجاسرون على النظر إلى ذواتهم في المرآة بعد هذا التملق المهين ( للعلم و للثقافة ذاتها و للضمير الوطني ! ) ؟ ماذا سيقول ( حلمي النمنم ) وزير الثقافة المفترض أنه متخصص في التاريخ _ كما يقول عن نفسه _ للجانه و ماذا ستقول لجانه له بعد حكم مجلس الدولة ؟ و هل هذا صنيع من يعمل لثقافة حرة ( توعوية ) أم ( تجهيلية ) ؟! لم أتصور للحظة أن تكون أزمة ( المجلس الأعلى للثقافة ) أزمة ( ولاء وطني ) يتصل بتراب الأرض المصرية ! لكنه و بحق ما أسماه ( المتنبي ) : ( ضحك البكا ) !