أثارنى فضولى لحضور ندوة لمناقشة رواية (سقوط الإمام) للدكتورة نوال السعداوي، والتى نشرت لأول مرة عام 1987م، ثم أعيدت طباعتها مرة أخرى عام 2002م، وتمت مصادرتها من قبل مجمع البحوث الإسلامية بعدها بعامين! وفى الرواية سلطت السعداوى الضوء على فضح الحكام المستبدين، وعلى كل من يمتلك منصبًا مؤثرًا وهامًا فى الدولة كالحاكم أو الرئيس أو الإمام.. وربما كان هناك إسقاط على الرئيس الراحل أنور السادات بصفته "الرئيس المؤمن" وما عانته هى من سجن إبان سنوات حكمه! لم يكن عدد الحاضرين بالندوة كبيرًا على عكس ما توقعت، فلم تكن القاعة "على آخرها"، وإن كانت الغالبية لم تأت إلا لرؤية نوال السعداوي، والتى حالت وعكة صحية دون حضورها.. لذا فقد سيّر دفة الندوة شاب وفتاة من فريق العمل المعاون لها. وبعد عرض مبسط ومختصر للرواية، وجّه القائمان على الندوة الدعوة للحضور، إذا كان أحد منهم يود أن يتكلم عن تجربته مع د. نوال، وكيف أثّرت فيه، وكيف تأثر بها؟ وبالفعل اعتلى المنصة عدد ليس بالكثير، لشباب من الجنسين، والكل تحدث عن تجربته فى مدة لم تزد عن دقيقتين، وقد تنوعت تجربتهم ما بين حرية المرأة وحرية العقيدة، والدين. لم يكن المتحدثون أبناء محافظة بعينها، أو من فئة عمرية محددة، أو مستوى اجتماعى أو ثقافى واحد، بل جمعهم إعجابهم وتأثرهم، بأقوال الكاتبة الطبيبة، وكانت كلماتهم القليلة، فى حاجة للدراسة والنقد والتحليل، وعدم المرور عليها مرور الكرام.. وكان هذا أثرى ما فى اللقاء. كان من أهم المتحدثين فتاة ثلاثينية، أتت من محافظة الأقصر بصعيد مصر، خصيصًا لحضور الندوة ومقابلة الكاتبة التى غيّرتها، وتكلمت بلسانها، وجعلت منها امرأة قوية، متمردة على الواقع الصعيدى المجحف بعاداته وتقاليده، ونظرته غير المنصفة والظالمة للمرأة، واختتمت حديثها بإلقاء أبيات من الشعر العامى من تنظيمها، بعد مطالبتها بالمزيد من الحرية للمرأة الصعيدية. والسؤال.. هل ما يحتاجه صعيد مصر هو فقط "حرية المرأة"؟ وإلا فكيف قطعت المتحدثة كل تلك المسافة لحضور مناقشة مدتها ساعتان من الزمن؟ وأى عقلية متحجرة سمحت لها بهذا؟ لا شك أن المجتمع الصعيدى مغلق على عادات سيئة، سبّبت "الكبت" لأبنائه رجالا ونساءً، بجانب إهمال الحكومات المتعاقبة له، والمرأة الصعيدية تحديدًا واقع عليها ظلم بيّن فى المواريث، غير مشاكل المرأة المعيلة، التى تعج بها الكفور والنجوع، لذا وجب مواجهة مشاكلنا لمعالجتها، فالصعيد بمحافظاته يحتاج غربلة وتنمية شاملة، لكل أوجه الحياة به، وليس فقط للمرأة والمطالبة بحريتها. وثمة تجربة أخرى أو نموذج آخر، وكانت لفتاة مسيحية، والتى قالت إن الدين يقدم صورة مشوهة للإله تجاه المرأة، حتى داخل أروقة الكنيسة، تكون الغلبة هناك للرجل، بمعنى وقوف رجالها (رجال الكنيسة) دائمًا فى صف الرجل، طبقا للنصوص الدينية المسيحية.. وهنا أثنت على نوال السعداوي، فإليها يرجع الفضل، أنها عرفت الله وأحبته، واكتشفت أنه ليس بهذا "القبح"، على حد قولها. ومن ثم بدأت فى كتابة المقالات والكتب المناصرة للمرأة المسيحية.. وطالبت فى ختام حديثها بتأنيث بعض المناصب الكنسية الدينية، وتساءلت لماذا لا تتقلد أنثى منصب (القس) مثلًا؟ لا أفقه كثيرًا فى المسيحية، ولكن يبدو من خلال نموذج تلك الفتاة أنها فتاة إيجابية، قرأت وتفكرت ويكفى قولها إنها (أحبت الله). عكس مسلمين كثر، لم يتفكروا، وأنكروا الدين، بل وطالبوا بغلق المساجد، ولكى لا تؤول نيتهم خطأ، طالبوا على استحياء بغلق الكنائس أيضا. هذا ما أثاره متحدث آخر، وهو ما زال طالبًا جامعيًا، والذى قال إنه لا حل لمشاكلنا إلا بغلق المساجد والكنائس بسبب الخطاب الديني؟ وهنا قابل كلامه تهليل وترحيب وتصفيق حار من الحضور وكان الملفت أن أغلب المصفقين (فتيات متحجبات)! وهنا سؤال آخر يفرض نفسه.. هل الدين هو أساس مشكلاتنا؟ كالبطالة، تأخر سن الزواج، الطلاق، تدنى الأخلاق، الفقر والعوز، الجهل، وعدم إعمال العقل.. إلخ وهل غلق المساجد أو الكنائس، سيقدم الحل والعلاج لكل ما سبق؟ وهل هؤلاء الشباب يهرولون للمساجد، ويصغون للدعاة، ويقيمون شعائر الدين كما أمر الله؟ الإجابة غالبًا.. لا.. فالمساجد مفتحة ليل نهار، وتكاد تكون خاوية إلا من كبار السن، وذوى المعاشات، ولا وجود للشباب وهذا على عكس الكنائس، التى تعج بالشباب المرتبط بكنيسته، وكأنها وطنه الثاني، وربما الأول! فلعل التدهور الذى وصلنا له فى جميع المجالات، هو غلق الدور الاجتماعى والتثقيفى والتنويرى والخدمى للمسجد، واختزاله فقط فى (الديني)، وربما عدم الاهتمام والتدقيق فى اختيار الأئمة والخطباء، وإهمال الخطاب الدينى وتركه فى يد "هواة"، ومن ثم بث روح الريبة والشك فى دور المسجد، ورجاله حتى بات مهجورًا! وغلقه من عدمه لن يقدم ولن يؤخر ولكن لماذا كتم صوت من يلجأ لبيت الله ويقول (يا رب) والأفضل علاج مشكلتنا مع الدين. كانت هذه أهم النماذج والتجارب، التى تأثرت بمؤلفات نوال السعداوي، وكان تحليلى خلف كل نموذج من وجهة نظري، وكانت هناك تجارب أخرى، لكنها بلا نتيجة، فقط تمردت لأجل التمرد، تائهة وفاقدة للبوصلة الصائبة مثل مجتمعنا المصري، ونموذج آخر مدافع عن الطبيبة المؤمنة، وإنها ليست كافرة، أو ضد الدين! وفى نهاية اللقاء، استعرض فريق الشباب المعاون للدكتورة نوال جولاتها خارج البلاد، وتكريم الغرب لها، وترشيحها لنيل جائزة نوبل أكثر من خمس مرات، ومصر لم تقدم لها شيئًا! وهنا تجدد السؤال الذى دائما يراودني، هل الطبيبة والكاتبة نوال السعداوى مظلومة فى مصر؟ وهل تطبق عليها مصر القول "لا كرامة لنبى فى وطنه" تجاهها؟ أم نوال السعداوى ظالمة بتجنيها على الإسلام كديانة ودخولها فى مناطق شائكة لا تفيد؟ وإذا كانت مظلومة فلماذا لم تسع مصر للثناء عليها بالخارج لنيل نوبل؟ ولكن الندوة حملت عنوان (ملتقى نوال السعداوى الرابع عشر) إذن هذا لقاء يتجدد ربما شهريًا، وتكرر أكثر من مرة بدليل الرقم (14) وكان بمكتبة مصر الجديدة إحدى المكتبات العامة والمملوكة للدولة، إذن الدولة لا تحاربها ولا تظلمها، فهى حرة، طليقة، غير مكبلة بقيود، غير متحجبة، تسافر وتعود بلا أدنى ضرر، تلتقى مع شبابها بأماكن عامة! إذن الدولة المصرية لم تلفظها قط، وربما من لفظها هو الشعب والشارع المصري، لما لها من آراء جارحة وصادمة، ومتطرفة بعض الشيء، واتفقنا أو اختلفنا معها، فهى كاتبة لها ثقلها ولها قراؤها ومعطبيها. وبعد كل هذا تحسست رأسي، ووجدت الأفكار تتصارع، وكادت أن تفتك بي، فغادرت المكان، وأنا لا أعرف إذا كان فضولى سيدفعنى مرة أخرى، لتكرار التجربة، وحضور ملتقى آخر لنوال السعداوي، أم سيكتفى عقلى بما سمع وشاهد؟ الله أعلم..