منذ فترة غير بعيدة بدأ اهتمام مفاجئ من قبل جمال مبارك، الأمين العام المساعد، أمين لجنة السياسات بالحزب الوطنى، بقرى مصر فى الدلتا والصعيد، وتم الترويج إعلامياً لهذه الزيارات، التى راح يتنقل خلالها بين عدد من القرى التى تمت تسميتها القرى الأكثر فقراً، ثم تحولت التسمية بعد قليل إلى «القرى الأكثر احتياجاً».. لم يتضمن إحصاء «الحزب الوطنى» تلك القرى التى أقر البنك الدولى، فى تقرير سابق له، بأنها الأكثر فقراً فعلاً فى مصر، والتى نشرت «المصرى اليوم» حينها سلسلة من التحقيقات ترصد خلالها حياة شريحة من المواطنين المنسيين، الذين يعيشون حياة بدائية، ينقصهم فيها من سبل العيش كل ما هو آدمى وضرورى. اصطحبنا القارئ أمس فى زيارة لقرية «ابشادات» بالمنيا، واليوم رحلة جديدة إلى «زرابى» أسيوط. «الزرابى».. قرية تنتظر تنفيذ وعود «جمال» فى الأوراق الحكومية تضم الزرابى 4 مراكز صغيرة، وفى الواقع، هناك، على أرض «الزرابى»، تنقسم القرية إلى قسمين، الأول حقيقى، واقعى، شوارع متربة، محفور قلبها، وأعمدة إنارة لا تعمل.. حمير تحمل فوق ظهورها فلاحين بجلابيب لوّنها الطين، وأطفال تملأ الشوارع، وبيوت من طين تراوح نفسها بين الذهاب والبقاء، فيرسل بعضها شروخا لتعلن عن رحيله قريبا، ويصمد البعض الآخر «سترا» على أصحابها.. وفى قلب القرية يقع الجزء الثانى، نظيف، مصقول، لامع، يضم مبانى: الوحدة الصحية، والوحدة المحلية، ومكتب البريد، ومكتباً للخدمات الزراعية، ومقراً للمجلس المحلى، ومركز الشباب. مبان ثابتة، ممتد بعضها إلى السماء، وشوارع أسفلتية.. سلال للمهملات كل 5 أمتار، وعدد من الأقفال الحديدية تغلق نصف المبانى.. وخلو من البشر يرفع شعار «مغلق» على النصف الآخر. «مرحبا بك فى الزرابى» بقايا لوحة فى ميدان الجمهورية، أكبر ميادين القرية، والذى يضم نقطة الشرطة الصغيرة، وهو الميدان الذى أقيم فيه لقاء جمال مبارك أمين لجنة السياسات بالحزب الوطنى وأحمد عز أمين التنظيم «والمهندس أحمد المغربى وزير الإسكان» واللواء عبدالسلام المحجوب وزير التنمية المحلية، والدكتور على المصيلحى وزير التضامن الاجتماعى، و«ماجد جورج وزير البيئة»، واللواء نبيل العزبى محافظ أسيوط مع أهالى القرية قبل ما يزيد عن عام، والذى تحول اسمه لاحقا كما نقلت الصحف إلى ميدان «جمال مبارك»، رغم أن أهالى القرية، ولوحة معدنية زرقاء متربة، مازالوا يطلقون عليه «ميدان الجمهورية». بعض أهالى القرية مازال يحتفظ من الزيارة بذكريات شبه سينمائية، مثل الحاج «محمد أبوخالد»، أو أحمد إسماعيل اللذين يرويان: وقتها كانت البلد مقفولة قبلها بأسبوع، وكان الأمن فى القرية يسأل عن أشخاص معينة رشحهم أعضاء فى المجلس المحلى لحضور اللقاء، ويومها، أخذت المدارس إجازة، وتم منعنا من التجول فى شوارع البلد، كل شىء كان ممنوعاً، إلا للذين فازوا بنصيبهم فى اللقاء.. يبتسم «أبوخالد» ويقول: «بس بعد الزيارة، اللى حضروا قالوا إن الأستاذ جمال وعدهم بحاجات كتير.. وبعد ما مرت سنة وسألنا عن الوعود، قالوا لسه بدرى». جغرافيا، تقع «الزرابى» جنوب «أبوتيج» بأسيوط، فى أوراق الحكومة هى قرية ال«47 ألف نسمة» وفى مخططات الحزب الوطنى تدخل حزمة القرى «الأكثر احتياجا»، وفى خطاب جمال مبارك الذى ألقاه فى لقائه بأهلها هى القرية التى قامت «لجنة السياسات بعمل حصر لمشكلات ومطالب الأسر فيها وظهر أن هناك عددا من الأسر المستحقة لا تحصل على الخدمات والإعانات، وكان الحل فى نفس الخطاب «هناك خدمات جديدة سوف تقدمها الدولة للمواطنين سواء عن طريق بطاقات التموين أو خدمات تقدم للأسر الأكثر احتياجا فى صورة معاش الضمان الاجتماعى والمساعدة بالقروض الصغيرة»، «الأسر الأكثر احتياجا». ارتبكت «علوية السيد»، صاحبة الخمسين ربيعا، بمجرد سماعها للمصطلح «الحكومي»، كانت ترتدى جلباباً أزرق، وشالاً أسود اللون تلفه بطريقة شبه فرعونية فوق رأسها، مطلقة، ترعى وحدها أربعة أبناء، وتعيش فى غرفة طينية، لا تعرف عن الكهرباء إلا أزيزها المنبعث عن كابلات الضغط العالى فى الشوارع، أما فى البيت، ف«لمبة الجاز» مازالت تعمل بانتظام، ويقتصر مفهومها عن الصرف الصحى على «نصف جركن بلاستيكى»، يقضى الحاجة، ويصرف يوميا فى أرض فضاء خلف المدرسة، علوية راضية لا تفارق وجهها ابتسامة بسيطة، لم تعلم رغم مرور عام على الزيارة أن أمين لجنة السياسات كان فى قريتها، ولكنها تتذكر يوما، حذرها شيخ من فرع بعيد بعائلة زوجها، من الخروج من المنزل، فاكتفت بإغلاق الباب الخشبى الضخم، دون سؤال.. ذهبت ابتسامتها طوال اللقاء مرتين، مرة حينما أحرجها أهل القرية وسألوها عن «شاى الضيافة»، ومرة أخرى عندما علمت أن شخصا ما كان فى القرية منذ عام، وكان من الممكن أن يساعدها على رفع معاشها من 80 إلى 100 جنيه.. «راح يكفّوا.. بس هما يزودوهم». وعد آخر من «أمين لجنة السياسات» يتذكره أهالى «الزرابى» كان بخصوص الوحدة الصحية، التى زارها بعد تجديدها بمناسبة الزيارة، قبل أن يعد بتطويرها فى اللقاء، وهو ما أثار غضب أهالى القرية، لأن الوحدة الصحية، مجهزة بأحدث الأجهزة قبل الزيارة بعام، ولم تكن فى حاجة للوعود بتطويرها، ولكنها حسب «محمد إسماعيل»، فى حاجة لتشغيلها.. تقع الوحدة الصحية فى ثلاثة طوابق، مجهزة بأحدث الأجهزة والمعدات، نظيفة، مصقولة، غير أن معظم غرفها مغلقة، ولا يتواجد فيها إلا طبيبة وحيدة، من أهالى أبو تيج، قالت إنها تعمل كفنية أشعة، وصيدلانية، ومختصة بشؤون تنظيم الأسرة، إلى جانب عملها الطبيعى كطبيبة، وأكدت أنها تعمل مع طبيب أسنان وحيد فى الوحدة الكبيرة، بالإضافة إلى عامل وحيد كثيرا ما يتغيب فتضطر لاستئجار أحد أهالى القرية «لتنظيف الوحدة الكبيرة.. علشان ماتجيش على دماغى، وأوقات يغيب الطبيب المقيم فى وحدة أبوالخرص، أو البلايدة، فاضطر إلى استئجار سيارة للذهاب إلى هناك لممارسة أعماله أيضاً». وعد من أمين السياسات، جر وراءه وعداً من وزير الإسكان الذى صحبه فى اللقاء «من جانبه أعلن المهندس المغربى أنه تم تخصيص1.7 مليون جنيه لتوصيل خدمات المياه إلى الوحدة المحلية ل(الزرابى) على أن تصل الخدمة مع بداية الصيف» انتهى صيف بربيعه، ومر وراءه شتاء بخريفه، ولم تصل المياه.. تقول أسماء الطبيبة العاملة فى صيدلية من صيدليتين فى القرية: «الوعود بالمياه النقية أهم من القروض التى وزعوها على رجال وأقارب العاملين فى المجالس المحلية، القرية لا يوجد فيها مياه نقية، وكل أهالى القرية أصبحوا مرضى بسبب المياه، وبدلا من المبانى الفخمة التى أنشأوها من أجل الوحدة المحلية، كان يجب الانتهاء من محطة المياه، لأننا مش عارفين نشرب ميه.. وده أقل حاجة». وهو ما تؤكده طبيبة الوحدة الصحية «معظم أهالى القرية يصابون بقىء مستمر، وإسهال حتى فى فصل الشتاء بسبب المياه، وأنا شخصيا لا أشرب ماء نهائيا داخل القرية، وأحضر زجاجات مياه معى من أبوتيج». ولا ينفى أهالى القرية أنهم استبشروا خيرا بمركز الشباب الذى تم افتتاحه قبل الزيارة، وأعمال حفر الصرف الصحى التى بدأت بعد الزيارة مباشرة.. قبل أن تمر الأيام، ولا يتبقى منها إلا ذكرى رحيل المقاولين من القرية وتبرمهم بسبب عدم صرف مخصصاتهم، والحفر الباقية فى قلب الشوارع، ولوحة صفراء كبيرة تضاءلت مساحة اللون الأصفر فيها لصالح الأتربة، مكتوب عليها «الهيئة القومية لمياه الشرب والصرف الصحى.. مشروع صرف صحى قرية الزرابى»، مزروعة وسط أرض فضاء، اعتاد أهل القرية أن يقذفوا فيها بجزء من مياه الصرف، بعد نقله بالأوانى المعدنية، أو سيارات النزح». وعود تحولت فى عقول البعض إلى بيوت متعددة الطوابق، وبقيت بيوتا من رمال فى عقول البعض الآخر، منهم «عطيات أحمد سيد».. بتلقائية تليق بسيدة لم تغادر قريتها الصغيرة طوال 40 عاما، وقفت «عطيات» داخل الصوان المقام فى ميدان الجمهورية، أمام نقطة الشرطة الوحيدة فى القرية، وقالت «أنا عطيات أحمد سيد، من قرية الزرابى وباشكر جمال مبارك اللى جه ونورنى، وأنا جوزى متوفى وسايب لى بنتين واحدة اتجوزت والتانية معايا، وعايزة مساعدة أبنى بيتى».. تبتسم عطيات وتقول «الريس جمال قال كل اللى قدم شكوته هيوصله كل حاجة.. وكتبوا ورق قالوا سوف يعطوننى فى المبانى الجديدة».. تنكسر ابتسامتها وتكمل «تلاقيه نسى مشكلتى، مستحيل يدونا.. يدونا احنا الغلابة؟». تعيش «عطيات» التى مع ابنتها فى غرفة نصف مهدمة تحت سطح الأرض، تنحنى فى الدخول والخروج، ولا يصلب طولها ال80 جنيها قيمة معاشها، ترتدى جلباباً صينياً رخيصاً، كُتب عليه باللغة الإنجليزية «من أجلك أنت»، ولم تسع إلى لقاء «أمين لجنة السياسات» يوما ما، تتذكر عطيات «محمود حسنى بتاع المجلس المحلى، اللى أنا واخدة منه قرض، هو اللى دعانا للذهاب، قال روحوا علشان تردوا لى الفلوس.. ولم يكن موجوداً فى الصوان إلا محمود حسنى واللى واخدين منه قروض» ثم أشارت بيدها لأعلى وأكملت «والناس الواصلة».