لا يمكن فهم مؤتمر «ماردين دار السلم» إلا فى إطار أعم وأكبر، ألا وهو التوجهات التركية الجديدة لبناء مفهوم وطنى جديد للدولة الكمالية، يمكن أن نطلق عليها: «الكمالية الإسلامية». ونقصد بهذا المصطلح أن حكومة حزب العدل والمساوة تحاول وصل ميراث الكمالية بالتصورات الإسلامية التركية الجديدة. هذا الوصل يعتمد على إعادة هيكلة العلاقات المدنية العسكرية التركية لتتكيف وتتناسق فى ضوء عاملين: أولهما، العمل على نزع الدافع الانقلابى للدفاع عن العلمانية من القيادة العليا والعقيدة العسكرية التركية، ثانيهما، التأكيد على أن الإسلامية التركية تعتمد على منطق قومى تركى قائم على مفهوم التعددية فى السلوك والقيم العامة. فحكومة طيب أردوجان تعمل على هيكلة التوجهات الكمالية العلمانية القائمة تاريخياً على النسق الفرنسى لتتناسب مع اعتبار تركيا دولة إسلامية عصرية متناسبة مع مقتضيات العولمة. الأمر الذى يؤدى بالضرورة إلى تعديل العلمانية الكمالية من النمط الفرنسى الذى يتطلب من المواطن أن يكون علمانياً أولا إلى النمط الأمريكى، الذى يتطلب من مؤسسات الدولة أولا أن تكون علمانية، وبالتالى يخلق مجالاً لتعددية القيم للفرد التركى. فتغير سلوك المؤسسات التركية والفرد التركى هو جوهر الكمالية الإسلامية التى تعيد صياغة الميراث العثمانى الإسلامى الإمبراطوى ليصير آليات اقتصادية ودولية والميراث الكمالى ليصبح رصيدا ودافعاً للاندماج فى العالم بعد أن كان مؤشراً بعد الحرب العالمية الأولى على الخصوصية التركية. جاء مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة فى نوفمبر 2002 وانفراده بالسيطرة على البرلمان وبتشكيل الحكومة الجديدة. جاءت الاستراتيجية الجديدة لحزب العدالة والتنمية لتأخذ بعين الاعتبار: 1- الخلفية الإسلامية لمعظم كوادر وقيادات الحزب، 2- انتهاء الثنائية القطبية والتفرد الأمريكى فى السيطرة والهيمنة على العالم، 3- أحداث 11سبتمبر ورفع واشنطن لشعار الحرب على الإرهاب الإسلامى، 4- احتلال العراق. لقد انطلقت استراتيجية حزب العدالة والتنمية الجديدة والتى وضعت قبل تأسيسه عام 2001، من واقع أن لتركيا عمقين: تاريخى واستراتيجى. وأن السياسات السابقة حبست تركيا ضمن ثنائية، ساهمت فى شل إمكانية التواصل مع الجانب الآخر، أى العالم العربى والإسلامى، والمحيط الجغرافى لتركيا فى القوقاز والبحر الأسود والبلقان، الذى كان جزءاً من الكتلة الشيوعية. إن «استعادة» تركيا عمقها التاريخى والاستفادة من عمقها الجغرافى الاستراتيجى، كان فى أولويات سياسة حزب العدالة والتنمية فكان الانفتاح الذى رآه الجميع تجاه العرب وإيران وروسيا وبلغاريا والبلقان وصولا إلى أفريقيا. فقد تزامن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة مع احتلال العراق ودخول استراتيجية الحزب اختبارا عمليا خرجت منه إلى حد كبير بنجاح، حيث نأت تركيا بنفسها عن المشاركة فى العدوان والاحتلال مما فتح طريقين أمامها: العالم العربى والاتحاد الأوروبى. وقدر الشارع العربى، عاليا عدم انخراط تركيا فى احتلال بلد عربى، ورغم الخسائر السياسية التى تكبدتها إجراءات خروجها من المعادلة العراقية ما لم يتعلق بأمنها القومى المباشر والضيق، أى تهديد الحدود. فإن العلاقات العربية - التركية، فى عهد العدالة والتنمية شهدت إنجازات هائلة حتى إن مهندس السياسة الخارجية التركية الجديدة ومستشار رئيس الحكومة رجب طيب أردوجان، الدكتور أحمد داوود أوجلو، وصف هذه الحقبة، المستمرة حتى الآن، ب«الذهبية». لقد نجحت أنقرة فى «وأد» جملة من المشكلات كانت تؤرقها وفى مقدمتها الخلافات مع سوريا، وكذلك انفتح حزب العدالة والتنمية على جميع الدول العربية الأخرى، ومن تجسيدات ذلك، ذلك الكم الهائل من الاستثمارات الإسلامية «الخليجية خصوصاً» الذى يتحقق فى الداخل التركى وعلى صعيد خصخصة العديد من مؤسسات القطاع العام. ولا يشك أحد فى أن العلاقات مع إيران شهدت تقدما مهما. لم يسع حزب العدالة والتنمية أن يكون الانفتاح على العرب والمسلمين على حساب علاقاته مع إسرائيل. فعمل على إقامة علاقات متوازنة مع الطرفين العربى والإسرائيلى وتم تخفيف «الشحوم الزائدة» على خط تل أبيب. كان ذلك فى ضوء شعار جديد صكه وزير الخارجية التركى عبدالله جول، قبل أن يتولى رئاسة الدولة، بأن تركيا لا يمكن أن تحبس فى الأناضول، الأمر الذى فسره البعض خطأ بنزعة عثمانية متجددة. ويستمر التحليل.