ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء البلدية هو اللغز الأعظم فى مصر الآن. والكتابات التى ملأت الصحف، تسببت فى مزيد من إخفاء الوجه الحقيقى لواحدة من أخطر قضايانا القومية، وبدا الأمر - من تصريحات المسؤولين - وكأن المطلوب منا أن ننشغل دائماً بالبحث عن قطة سوداء فى خرابة مظلمة.. ولا نلتفت أبداً إلى «المنبع» الذى يتعرض، منذ سنوات، للتجفيف والتخريب. والحكاية أن ارتفاع أسعار اللحوم البلدية ليس إلا حلقة طارئة من حلقات مؤامرة ثابتة لتدمير منظومة الإنتاج الحيوانى، وإخلاء الساحة تماماً أمام حفنة مستوردين نجحوا إلى حد كبير فى تنفيذ مخططهم، ودفعوا المسؤولين إلى اتخاذ قرارات سريعة بالتوسع فى استيراد اللحوم المجمدة والأبقار الحية لمواجهة الارتفاع المفتعل وغير المبرر فى أسعار اللحوم البلدية. نعم، الارتفاع الأخير فى أسعار اللحوم غير مبرر على الإطلاق، لأنه جاء بعد شهور طويلة من انخفاض أسعار الأعلاف المحلية والمستوردة.. فقد انخفض سعر طن الكسب من 2300 جنيه إلى 1800 جنيه، وانخفض سعر طن الذرة الصفراء من 1700 جنيه إلى 1100 جنيه، وسعر طن النخالة من 1650 جنيهاً إلى 1200 جنيه، ولجأ الفلاحون فى الدلتا إلى استخدام الأرز والذرة البيضاء علفاً للمواشى. وكان المنطقى مع انخفاض مستلزمات الإنتاج الحيوانى، أن تنخفض أسعار اللحوم البلدية أو على الأقل لا تشهد هذا الارتفاع المفاجئ والمطرد، وكان المدهش فى الأمر كله أن «يبشرنا» السيد أمين أباظة، وزير الزراعة، بأن سعر كيلو اللحوم البلدية قد يصل قريباً إلى 200 جنيه! لهذا لم يعترض أحد على «الإنجاز» الضخم لوزارة الزراعة، التى سارعت باتخاذ قرار الموافقة على أكبر صفقة استيرادية من اللحوم المجمدة والأبقار الحية فى تاريخ مصر، وقد تورط كثيرون فى تأييد «الصفقة»، وغفل كثيرون عن أنها استسلام كامل من الدولة أمام مافيا استيراد اللحوم. صحيح أن الوزير تحدث أيضاً عن إحياء مشروع «البتلو» لتنمية الثروة الحيوانية، وتحدث آخرون فى وزارته عن تقديم قروض ميسرة لصغار المربين.. ولكنها تظل مجرد «وعود» استهلاكية رددناها آلاف المرات ولم ننفذ حرفاً واحداً منها. والخلاصة أننا تورطنا جميعاً فى تمزيق «الجزارين» وحمّلناهم وحدهم مسؤولية ارتفاع الأسعار وذبح إناث الماشية وذبح العجول الصغيرة.. وكثرت المطالبات بالتوقف عن شراء اللحوم البلدية ومنع الذبح لفترة طويلة حتى يرتدع هؤلاء الجزارون.. والمؤكد أن تنفيذ هذه المطالب الآن هو أكبر خدمة نقدمها لمافيا الاستيراد التى ضاعفت أسعار اللحوم المستوردة دون مبرر خلال أقل من عام. الإجهاز على الثروة الحيوانية فى مصر هو الكارثة الأم، وقد بدأ مخطط الإجهاز عام 2005 باستيراد أبقار حية مريضة من إثيوبيا نشرت فصيلة جديدة من الحمى القلاعية فى مصر، وتسببت فى إجهاض الماشية ونفوق العجول الصغيرة عام 2006، وتزامن ذلك مع خروج آلاف الأطباء البيطريين إلى المعاش وعدم تعيين أطباء جدد.. ولجوء أباطرة الاستيراد إلى الاتجار أيضاً فى المواشى المحلية وتشجيع الجزارين على ذبح الإناث «العشر» وذبح العجول الصغيرة، ومنذ سنوات وشعبة القصابين باتحاد الغرف التجارية تحذر وزارة الزراعة من هذا المصير المحزن للثروة الحيوانية الوطنية.. وقد صرح محمد وهبة، رئيس الشعبة، مؤخراً بأن «المستفيدين من عدم تفعيل قوانين منع ذبح الإناث.. هم السبب فى عرقلة التنفيذ». الكارثة وقعت إذن.. والحل ليس فى الاستيراد، وليس فى وقف الذبح لفترة طويلة.. ولكنه فى العودة، وبأقصى سرعة، إلى «الريف» وتقديم قروض ميسرة للمربين الصغار وتعيين كل الأطباء البيطريين الذين يعملون بعقود مؤقتة وباليومية منذ 15 عاماً.. وإلا سنصحو قريباً على كوارث أخرى، أهمها كارثة تراجع الإنتاج المحلى من الألبان والجلود والسماد الطبيعى، والاختلال المخيف فى خريطة الزراعة المصرية. [email protected]