كثر الحديث عن تراجع مكانة ودور مصر الحضارى والريادى فى المنطقة والعالم، وورد فى كثير من التقارير العالمية والمحلية ما يوضح مدى التدهور فى مؤشرات التنمية البشرية والقدرة التنافسية وزيادة الفقر والبطالة، ورغم أن السنوات الماضية شهدت تقدما فى المجال الاقتصادى تمثل فى زيادة معدل النمو والدخل القومى بل تحقيق نمو إيجابى فى قلب الأزمة المالية العالمية خلافا للعديد من الدول فإن عدم الرضا عن أوضاع مصر استمر على ما هو عليه، وقيل فى ذلك تفسيرات أيديولوجية وسياسية مختلفة لا مجال هنا لتقييمها، لكن اسمحوا لى أن أطرح مدخلا آخر لتفسير فقدان مصر لقوتها، والذى لا شك أنه نتاج فقدان التقدم العلمى والتكنولوجى وما يتبعها من ثروة. لقد استخدم الإنسان منذ بدء الخليقة عقله وتفكيره ونشاطه لمواجهة الظروف الطبيعية والأخطار المحدقة به ولتلبية احتياجاته الأساسية وتطلعاته وأبدع لذلك حلولا وتطبيقات عملية تتناسب والمشاكل المطروحة عليه ولم يكن ما أوجده من حلول وقتذاك لتدبير الطعام والشراب والملبس واتقاء العواصف والرياح ورد الوحوش يحمل اسم التكنولوجيا لكن المعارف العملية التى مكنت الإنسان من إيجاد الحلول وأسست لقيام المجتمع واستمراره ليست بعيدة أبداً عن الاسم الذى نستخدمه حاليا لوصفها، فالتكنولوجيا فى أبسط التعبيرات هى معرفة طريقة عمل شىء ما واستخدام ذلك فى تحقيق أغراض حياتية وتلبية حاجات الإنسان والمجتمع، والطريف أن هذا التعريف على بساطته ليس واضحا فى أذهان العامة بل الكثير من طلبة الهندسة وبعض المتخصصين! وإذا عدنا إلى تاريخ مصر القديم نفسه فسنلاحظ بسهولة الفارق بين ما صنع لها المجد والثروة ما قادها إلى الاضمحلال والفقر، فى أزهى عصور (أعرف الحساسية التى تعترينا من استخدام هذا التعبير!) الإمبراطورية المصرية القديمة اعتمد المصرى على التكنولوجيا لإنشاء حضارتة الرائدة إنسانيا وابتكر أدوات للزراعة والحصاد والرى وابتكر طرق البناء المجسدة فيما خلفه لنا من معابد ومدن وأهرامات جلب لها الأدوات والمواد من مسافات بعيدة بالنقل النهرى والبرى واستخدم الروافع والتخزين والإمداد (اللوجيستيات)، وعرف كيف يختار المواقع ويجس التربة واستخدم الرياضيات والقياسات الهندسية والميكانيكا وفى رأيى فإن الهرم ليس مجرد معجزة، ولكنه بالتعبير العصرى بناء كثيف المعرفة بكل ما تتطلبه من تطبيقات وبما استخدم فيه مما نسميه علوما متداخلة. استخدمت مصر التكنولوجيا أيضا فى دحر الأعداء والذود عن حدودها، ويشهد بذلك معاركها الشهيرة بقيادة أحمس وكذا رمسيس الثانى بعربته الشهيرة وكل ما تقدم يؤكد ما كان للتكنولوجيا من دور فى بناء قوة وثروة مصر. كان البعض يظن أن معارف المصريين كانت عملية فقط أى لم يتم صبها فى تجريدات تجعلها قابلة للتعميم والاستمرار كنظريات علمية بالمعنى المعاصر، وطالما اختلف علماء مثل الدكتور سمير حنا صادق والدكتورة يمنى طريف الخولى على ذلك، لكن البرديات المحققة فى العقود الأخيرة أوضحت أن المصريين أصحاب نظريات وأن الأغريق أخذوا العلم عنهم لكن المهم أن أساس ازدهار مصر كان المعارف والتكنولوجيا وعندما تحولتا إلى أوروبا.. إلى الإغريق ثم الرومان ظهرت الإمبراطوريات الأوروبية التى طمعت فى مصر وغير مصر وعرفت العديد من التكنولوجيات الحربية التى لعب فيها الحديد دورا بارزا كما عرفت استراتيجيات جديدة لتنظيم الجيوش واستخدام الخيول وادى الانفتاح الفكرى والعقلى فى أوروبا إلى مضاعفة نواتج القوة الشاملة هناك، بينما كنا نحن ننغلق شيئا فشيئاً، ففقدنا مكانتنا وأصبحنا نهبا للطامعين من كل صوب. جاء عصر النهضة الأوروبى فخلص العقول من التفكير الخرافى والخزعبلى ونتج عن ذلك كله تاليا الثورة الصناعية التى غيرت وجه العالم حيث ظهر العلم بالمفهوم الحديث وتضاعف استخدام التطبيقات فى خدمة المجتمع والدول وزاد الدخل القومى مرات وكذا نصيب الفرد منه خاصة فى الدول التى قادت أول موجة للثورة وأعنى إنجلترا وفرنسا وفيما بعد أمريكا قبل أن يصل الأمر إلى آسيا وفى المقابل خاب وضع الدول التى لم تشترك قى تلك الثورة وبقيت على فقرها وتخلفها، لم يقف الأمر عند هذا الحد فظهور ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات جعل وتيرة التقدم مذهلة، ووضح جليا الفارق بين حال الفرد فى دول مثل مجموعة الثمانى الكبرى وحديثا الصين والهند ومعها الدول الآسيوية التى لحقت بالثورة الجديدة وبين غيرها من الدول. إن الدرس الذى يجب تعلمه من تجارب الصين -بالذات- هو أنه إذا كنت متخلفا فلابد من الحصول على التكنولوجيا، وأنه ليس مهما أن تكون أول من ابتكر التكنولوجيا، ولكن الأهم أن تعرف كيف تستحوذ عليها وتطورها وتطوعها وتوظفها لمنفعة بلدك. ولما كانت مصر قد انغلقت على نفسها مرة أخرى فى العقود الأخيرة وابتعدت عن مضمار السبق والتفوق الابتكار، وانكمشت حرية الفكر والابداع فلا مفر وبكل السبل من تصويب كل ذلك ولا مناص عن لملمة شتاتنا التكنولوجى، حيث إن مصر ورغم كل ما لحق بها وجرى لها تمتلك عدداً جيداً من المبادرين والمبتكرين لكنهم فرادى ولا يشكلون موجة نهضوية ويعملون فى مواقع شتى ومعزولون عن التواصل وفيها أيضا من لا ينامون الليل لحل مشكلة أو التصدى لتحدى أو صعوبة فى مصنع أو ورشة أو مكان خدمة، وقد رأينا ما أبدعه مصريون بسطاء لتفادى أى نقص فى احتياجات قواتنا المسلحة فى أوقات الحروب أو تطوير ما تمتلكه من معدات بأدوات بسيطة وأحياناً فى ورش السبتية ذاتها (لعل الدكتور نبيل على يحكى لنا ما قام به شخصيا مع صنايعية السبتية لحل مشكلات للقوات الجوية بعد 67). لدى مصر ذخيرة من طاقة الشباب الذكى المذهلة ولن تستعيد مجدها وتقضى على آفات التخلف والفقر والجمود بغير التكنولوجيا ولن تقوى تكنولوجيا بغير الحرية واحترام الجديد، ومناقشته بعقلانية، وقد يصاب القارئ بالذهول إذا استعرضت أمامه عدد أساتذة الهندسة المصريين النابغين فى الولاياتالمتحدة وكندا- فقط- وعدد عمداء كليات الهندسة فى الدولتين من المصريين واتحدث هنا عن غير المشاهير بل إن ما يدعو للعجب أن الولاياتالمتحدة ذاتها حين استشعرت خطر تحديها من اليابان وألمانيا- قبل بروز قوة الصين- أقامت فى أول الثمانينيات المؤسسة الدولية لإدارة التكنولوجيا بهدف تعظيم عوائد استخدام الموارد التكنولوجية المتاحة لديها، باعتبار أن تلك الإدارة ستكون الفيصل فى التفوق فى الزمن المقبل وقد قام على إنشاء تلك المؤسسة مجموعة من المصريين.. نعم المصريين وكان لى حظ أن أكون منهم وأن أترأس المؤسسة لسنوات ولايزال بها الكثير من المصريين الذين زارنا بعضهم منذ أيام خلال مؤتمر المؤسسة بالقاهرة وقد لاحظ الأجانب الذين حضروا المؤتمر أنفسهم مدى طموح واستعداد الجيل الواعد من المصريين وأثنوا على نماذج مما تمت إقامته بأيديهم على أرض مصر. من حسن الحظ أن تدفق التكنولوجيا لايمكن إعاقته وأنها قادرة على المرور عبر الحدود خاصة مع انتشار تكنولوجيا المعلومات فافتحوا الأبواب لكل من لديه من الداخل أو الخارج مبادرة فى مجال ابتكار أو تطوير: آلة أو معدة أو جهاز أو طريق أو فكرة تنظيمية أو تقنية والتكنولوجيا تستوعب كل ذلك وتفتح أبواب التقدم الاقتصادى السريع والقوى. مصر ستهب من كبوتها لاجدال فليس أمامها خيار آخر. رئيس جامعة النيل