إذا أنفقت من الوقت ما يعدل عمر إنسان بلغ أرذل العمر فى قراءة البركة فى الدين لما وجدت فيه بركة على فراغ وصغر أبداً، بل سوف نجد فى مواضع البركة جميعاً أن للبركة فى دين الله - عز وجل - نواة، تستند إليها، وإنى موافيك بسلسلة من حديث البركة على هذا الأساس الذى وجدته عسى الله أن يهدينا جميعاً إلى الإبصار، وأن يكشف عنا ما نحن فيه من سوء رؤية ورؤيا إنه سميع قريب مجيب. وأول ما نبدأ به هذه المجموعة أن نعرِّف البركة، فللبركة عند الكثيرين تعريف مقتضب من تعريف شامل حيث إنّ هذا التعريف يقول: «إن البركة زيادة فى الخير أو استمرار للحالة الطيبة دون انقطاع». والكثيرون يقتضبون هذا التعريف، ويظنون أن البركة مطلق الزيادة، فمن زاد الله خيره فقد بارك له وينسون باقى التعريف، أى ينسون أنها فى استمرار الخير دون زيادة، فالذى يدخل له ألف، ثم يصبح الألف ألفين فقد بورك له، وأما الذى يدخل له ألف، ويستمر الألف دون انقطاع وهو كافية فلا يرى هؤلاء من بركة حصلت له، هذا طبعاً إن كانت الألف مستمرة فى النفع، أما إذا استمرت، والأسعار نار كل يوم فتلك نقرة أخرى، إذ مازال صاحب الألف فى حاجة إلى ما يستره لتحصل له البركة. وإن شئت فقل: إن البركة تعنى أن تعيش حياة كريمة دائمة بلا انقطاع بغض النظر عن الأرقام، أو أن تكون أرقامك فى زيادة، ولكن كالزيادة التى كان عليها أبوبكر وعمر، وعثمان، وعبدالرحمن بن عوف، وسائر الصحابة الأثرياء، الذين بارك الله لهم، حيث عملوا، وزرعوا، وتاجروا، وأدوا زكاة أموالهم، وتصدقوا، وجعلوا من أموالهم سبيلاً إلى تقوى الله، فعثمان - رضى الله عنه - فى زمان الجدب جهز جيش المسلمين، ووسع مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، واشترى بئر رومة ليشرب منها المسلمون، وكان دلوه فيها مثل دلوهم، فهو صاحبها عند الله تعالى، وقد احتسب ثوابه، وهو فرد من الناس عند استعمال البئر، لا يزيد عليهم بشىء، وما جاء غلام له، أو جاء بنفسه فأفزع الناس مجيئه، وهتف هاتف: «وسّع للباشا» وتنحى الناس، وتفرقوا هنا وهناك حتى يملأ ما يشاء من قرب، وأوانٍ، لأنه هو الذى اشتراها، بل إنه أعلن ذلك للناس، وقال لهم: «دلوى مثل دلو أى إنسان»، وهناك فرق كما تعلم بين من يعلن ذلك إعلان صدق فيلتزم، وبين من يعلنه قولاً معسولاً والحقيقة تشهد ناصعة بخلاف قوله. ومن هنا نعلم أنَّ الدليل على أنَّ الزيادة بركة تصرف العبد فيما آتاه الله، فإن صدق واتقى كانت الزيادة له بركة، وأما إذا رأيته بخلاف ذلك فالزيادة له من باب الاستدراج. قال الله عز وجل: «والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين». فما كل ما تراه عينك من زيادة من باب البركة، وقد تبين لك الدليل الذى تحكم به على تلك الزيادة وهو كشاف يريك بوضوح إذا كانت الزيادة بركة أو استدراجاً. كما أنه ينبغى أن يقر الإنسان الذى ستره الله عمره، فعاش حياة كريمة بلا آلام مرعبة ولا ديون مرهقة، ولا منغصات - ينبغى أن يقول الحمد لله على البركة أى بركة الله عز وجل على تلك النعمة، وهنا يجب أن نكشف عن حقيقة غابت كذلك عن كثير من الناس وهى أن الاستمرار على نعمة الستر لا يعنى الكف عن طلب الزيادة دُعاءً وعملاً معاً، والدليل على ذلك أن ربنا - تعالى - يقول: «واسألوا الله من فضله» يسأل الله من فضله من وسع الله عليه؛ فلا غنى له عن المزيد، ويسأله من فضله من ضيق عليه وقدر، فإن الله - عز وجل - يقول: «واسألوا الله من فضله» لجميع عباده أغنياء وفقراء، فإن تحقق المزيد لمن زاده الله سلفاً فأنعم به، أو لمن قدر عليه فى الرزق فأكرم به كذلك أما إذا بذل من لا زيادة عنده جهده فى العمل وإخلاصه فى الدُعاء ولم تأت الزيادة الحسية المعروفة ففى ذلك خير له من زيادة قد تطغيه، فقليل يكفيك خير من كثير يطغيك، ولا يعنى ذلك أن الزيادة كلها طغيان.