تردد أخيراً مصطلح «عصيان مدنى» مقترناً بالدعوة إلى «إضراب عام» بهدف تفعيل الروح الثورية من جديد. لكن كما سيقول لك متخصصو التسويق ومحترفو الإعلان أهم شىء هو أن تكون «رسالة المُنتج واضحة للمستهلك كى يشترى السلعة»، بل يجب أن يكون «اسم الماركة» غير ملتبس من حيث المدلول اللغوى، أو المضمون المعنوى. للأسف مصطلح «عصيان مدنى» اسم ماركة محير من الناحية التسويقية البحتة! لماذا؟ ببساطة لأنه مصطلح مدلوله غير واضح للجميع ما إن كان إيجابياً أو سلبياً، بل إنه مصطلح يتطلب البحث والتنقيب وإعادة الشرح وحتى الجدال. فالقاموس يُعرّف «العصيان المدنى Disobedience Civil» بأنه «رفض الانصياع لقوانين معينة أو مطالب حكومية محددة بغرض التأثير على تشريع أو سياسة حكومية ما»، ويتميز هذا الرفض للانصياع باستخدام أساليب اللاعنف مثل المقاطعة Boycotting، الاعتصام Picketingأو عدم دفع الضرائب. والمعنى هنا أن المواطن يقرر كسر القانون بإرادته، متحملاً تبعات هذا الكسر من عقوبات، لاعتقاده بعدم أخلاقية قانون ما أو سياسة ما. فمثلاً فى الولاياتالمتحدة يقرر مواطنون أمريكيون عدم دفع الضرائب - مما يُعد خرقاً للقانون سيعاقبون عليه بقسوة - لأنهم لا يؤمنون بأخلاقية حرب مثل حرب فيتنام أو حرب العراق، فلا يريدون أن يساهموا بأموالهم فى قرار حكومى يعتبرونه لا أخلاقياً، فيدفعون ثمن عصيانهم القانون أو السياسة العامة بشكل علنى، مما يحفز آخرين على التفكر فى القضية المطروحة. وعادة ما يُرجع مصطلح «عصيان مدنى» لمقال كتبه الكاتب الأمريكى «هنرى ديفيد ثورو» عام 1849، الذى رفض دفع الضرائب لاعتراضه على العبودية والحرب الأمريكية فى المكسيك، وسُجن بسبب ذلك حين اعتبر «متهرباً» من الضرائب، ولكنه أُفرج عنه بعد أن دفعت عمته ضرائبه نيابة عنه وضد رغبته! غير أنه من الطريف أن عنوان مقال «ثورو» هذا لم يكن يحمل المصطلح أصلاً! بل كان بعنوان «مقاومة تجاه الحكومة المدنية» لكن بعد أن نُشرت محاضرات للكاتب عام 1866 بهذا العنوان المثير: «مقال عن العصيان المدنى» راج هذا المصطلح واستُخدم لاحقاً فى قضايا عامة فى الولاياتالمتحدة مثل الفصل العنصرى فى الستينيات وحركة الحقوق المدنية Movement Rights Civil بزعامة مارتن لوثر كينج، وكثيراً ما يقترن المصطلح أيضاً بحركة نضال «غاندى» ضد الاحتلال البريطانى فى الهند. لكن من الطريف أيضاً أن «غاندى» نفسه كان قد تحفظ فى رسالة له عام 1935 على إقران المصطلح به، مؤكداً أن مقولة إننى استمددت فكرتى للعصيان المدنى من كتابات ثورو مقولة خاطئة، فمقاومة السلطة فى جنوب أفريقيا (التى عايش «غاندى» أحداثها فترة إقامته هناك) كانت قائمة بالفعل قبل أن أطلع على المقال، ولكننى حين انتبهت إلى عنوان المقال العظيم للكاتب «ثورو» فكرت أن أستخدم هذا المصطلح كى أشرح نضالنا لقراء اللغة الإنجليزية!! ولكننى وجدت أن حتى مصطلح «عصيان مدنى» فشل فى نقل المعنى الكامل للنضال! لذلك تبنيت لفظ «المقاومة المدنية» عوضاً عنه. ويؤكد «جيه إل لوجرند» أن وضع تعريف واحد جامع شامل للمصطلح يعد أمراً صعباً للغاية، إن لم يكن مستحيلاً، فعند استعراض الأدبيات المهولة حول الموضوع يجد باحث العصيان المدنى نفسه محاطاً بمتاهات لغوية، وجماليات نحوية. تماماً كأنه «أليس فى بلاد العجائب» يجد هذا الباحث أن المعنى المحدد للمصطلح يختلف وفقاً لنية كل فرد عندما يقرر أن يستخدمه. من ثم فإن الأدبيات تشير إلى «غموض» المصطلح فى وقتنا المعاصر بل إن هناك من يسفه ويحط من مدلوله مثل مارشال كوهين الذى يقول بتهكم، وربما حتى بمبالغة فى النقد والتنديد فى مقال له عام 1969: «إن المصطلح أصبح رمزاً يصف أنشطة السارقين، والحارقين، المتهربين من التجنيد، المتشددين داخل الجامعات، المتظاهرين المناهضين للحرب، المساجين الأحداث صغيرى السن، ومغتالى السياسيين!». كل هذه المتاهات حول المصطلح؟ ونعاود استخدامه نحن اليوم؟ أخيراً، قد تكون ضريبة استحضار مصطلح «العصيان المدنى» هى عدم وضوحه فى أذهان معظم المصريين، وفى أذهان الباحثين، كما أوضحت، بل أذهان المناضلين أنفسهم مثل «ثورو» و«غاندى»! فهل «مقاومة مدنية» مصطلح أفضل «تسويقياً»؟ وإن كان الأمر كذلك فأى القوانين أو السياسات تحديداً التى يجب أن نقاومها مدنياً؟ وهل سلمية هذه المقاومة شرط أساسى يجب الالتزام به؟ إذا كنا نستحضر مارتن لوثر كينج أو غاندى، فكلاهما سيجزم بشرط السلمية هذا، حتى إن «غاندى» يصر على أن «سبَّ وإهانة» من «نقاومهم مدنياً» يكسران خط السلمية، فهلا ذكّرنا من يتظاهر بذلك؟ ففى الالتزام بمبادئ تظاهر حاسمة ومحددة قوة وتأثير، وفى الإخلال بها ضعف وتنفير منها. [email protected]