أكتب هذا المقال مساء يوم الخميس، مقتنعاً بأن أحداث ما سماه البعض «جمعة الغضب» لن يكون لها تأثير قوى لأن أهدافها متخبطة وغير واضحة. فلا أعتقد أن تلك الجمعة يمكن مقارنتها ب«جمعة الغضب» الأولى فى 28 يناير، لسبب بسيط هو أن عملية إسقاط قوات الأمن المركزى تختلف كثيراً عن محاولة المساس ب«القوات المسلحة»، وذلك من حيث إمكانية النجاح والتداعيات الناتجة، فالجيش لا يمكن أن يهزم من حيث المبدأ من قِبل المدنيين، لكنه يمكن أن ينتقد إذا لم يقم باستخدام كامل طاقاته فى القمع، ربما لذلك أرادت القوات المسلحة تفادى التواجد بين المتظاهرين فى جمعة الغضب الثانية. ومن يطالب المجلس العسكرى بتفعيل مطالب الثورة، بدلاً من أن تقوم بذلك حكومة مدنية منتخبة، فهو يعطى سلطات لهذا المجلس يجب ألا يتمتع بها بصفته مديراً لمرحلة انتقالية.. وأيضاً فإن حالة الفوضى النابعة عن تكرار التظاهرات ينتج عنها مطالبة شعبية بفرض النظام بالقوة الاستثنائية، وقد تنتج عن ذلك صعود قوى ديكتاتورية، من خلال انقلاب عسكرى أو غير ذلك. ولا أفهم لماذا لا تبدو تلك البديهيات واضحة لمن يسمون أنفسهم «الثوار»، كما أنه لم يبد واضحاً لهم أن اقتحام السفارات الأجنبية له عواقب مهمة. فبالمناسبة، لمن لا يعرف، من حق أفراد الأمن المنتمين للدولة الأجنبية، والمتواجدين فى داخل السفارات، الدفاع عن السفارة فى حالة محاولة اقتحامها وفشل قوات الأمن المحلية فى منع الاقتحام.. فهل كان يريد «الثوار» أن يطلق عليهم أفراد الأمن الإسرائيلى النار عند محاولتهم اقتحامها؟ وإذا أرادوا إلغاء السفارة من الأصل فلماذا لا يقولون لنا كيف سنتصرف فى حالة الحرب، وهم الذين لا يحترمون أصلاً الجيش المصرى المنهك حالياً؟! واللافت للنظر فعلاً أن الكثير ممن ينتمون لهذا الجيل ال«هاى تك» من الشباب لا يبدو أنه يفهم فظاعة طبيعة الحرب الحديثة التدميرية؛ ولا يبدو أنه يشارك معظم بقية الشباب فى العالم المعاصر فى كراهيته للحرب، بل هو أشبه بالشباب الألمانى الذى تحمس فى بداية الحرب العالمية الأولى، قبل أن يفهم حجم الكارثة التى نتجت عن هذا الحماس. المشكلة أن الكثير من الناس يعشق اللغة والخطابة والصورة المصاحبة، ويجيد إطلاق الشعارات، لأنه يجد فيها أداة مناسبة وفعالة لتحقيق ذاته، وأيضاً لإيجاد معنى لوجوده، بصرف النظر عن مصداقية ورصانة ذلك من الناحية العملية أو حتى المنطقية - المهم هو الظهور بمنظر يتمسك بمواقف تبدو براقة وشريفة، وذلك فى سبيل كسب الهيبة و«هالة الاحترام» التى تجلبها تلك المواقف فى نظر من يعجب بها فى المجتمع - بصرف النظر عن تداعيات هذه المواقف أخلاقياً وعملياً. والذى ينتج عن ذلك هو غياب القيادات التى تتمتع بقدر مناسب من المصداقية والمسؤولية عن الساحة السياسية والفكرية. فكما قلت من قبل ثورة يناير بقليل، تعليقاً على السؤال الذى كان دارجاً، آنذاك، والذى تعلق بإمكانية حدوث ثورة فى مصر مثلما حدث فى تونس، فقلت إن السؤال الأهم هو «ماذا سيحدث إذا انتشرت العدوى فعلاً؟ فأين فى هذه الحالة القيادات التى ستقود الدول العربية نحو الحرية، وتجد لهذا العالم مكاناً مناسباً وتصون كرامته فى الخريطة الأرضية السياسية المعاصرة؟». فى هذا الإطار، فربما هناك نقطة واحدة فى صالح من تظاهروا بالأمس، وكانت أحد مطالب بعضهم.. هذه النقطة تتعلق بمسألة صياغة الدستور الجديد. فربما أنه فى ظل الانهيار الاجتماعى والفكرى والسياسى السائد حالياً ليس من الحكمة فعلاً صياغة دستور جديد من قِِبل برلمان من المتوقع انتخابه خلال شهور، كما هو متوقع. فدساتير الدول يجب أن تعبر عن طبيعة دائمة يصعب تغييرها، أما الخريطة السياسية والفكرية الموجودة حالياً فى مصر فتعبر عن مسخ ناتج عن ستة عقود من القمع الذى أنتج حالة تعكس سيادة العجز والفقر الفكرى والشلل السياسى. وقد عاشت دول مثل الولاياتالمتحدة لمدد طويلة فى ظل دستور مؤقت، حتى نضجت سياسياً وفكرياً ثم عملت على وضع أساس دائم لصياغة مستقبل البلاد.. أعتقد أنه من الحكمة أن نفعل شيئاً مماثلاً: يجب إبقاء العمل بالإعلان الدستورى المؤقت لمدة لا تقل عن الفترة البرلمانية المقبلة. فمرة أخرى: إن أى انتخابات ستجرى فى المستقبل القريب ستعكس أمراض المجتمع التى ورثناها عن عقود الديكتاتورية والتشرذم الاجتماعى والتخبط الفكرى، ولذلك ليس من الحكمة إعطاء البرلمان القادم حق صياغة الصورة الدائمة للقانون الأساسى المنظم للحياة فى مصر المستقبل. صحيح أنه تم التصويت على فكرة اللجنة التأسيسية المعينة من قِبل البرلمان القادم، لكن ذلك حدث فى سياق التصويت على مواد أخرى كثيرة، والإعلان الدستورى الذى نتج فى النهاية تضمن العشرات من المواد الإضافية التى لم يتم التصويت عليها، ولذلك لا يمكن أخذ هذه العملية برمتها مأخذ الجد كأساس لصياغة طبيعة البلاد على المدى الطويل. [email protected]