عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 4 يونيو 2024 بالصاغة    بايدن: حماس هي العقبة الوحيدة أمام وقف كامل لإطلاق النار    انطلاق تدريبات جوية لقوات الناتو فوق شمال ألمانيا    مصرع 11 شخصاً جراء تسرب غاز بمنجم في باكستان    أول تعليق من سيد عبد الحفيظ على تصريحات «أفشة»    رسالة نارية من مدحت شلبي بسبب أزمة أفشة    شديد الحرارة والعظمى في القاهرة 38.. حالة الطقس اليوم    سيف جعفر: رفضت اللعب في الأهلي لأني زملكاوي.. وضحيت بأموال بيراميدز    تعرف على سعر البصل والطماطم والخضروات بالأسواق فى منتصف الأسبوع الثلاثاء 4 يونيو 2024    نقابة الصحفيين تكرم الزميل محمد كمال لحصوله على درجة الدكتوراه| فيديو    مصطفى بكري: الرئيس حدد مواصفات الحكومة الجديدة بالتفصيل    هشام حنفي: صلاح أيقونة.. وعمر كمال الأقرب للتواجد في تشكيل المنتخب    عبد الحفيظ: مرحلة مدير الكرة انتهت بالنسبة لي.. وبيبو يسير بشكل جيد مع الأهلي    ما بين انقطاع الكهرباء 3 ساعات وزيادة الأسعار تدريجيًا.. هل ينتهي تخفيف الأحمال قريبا (تقرير)    مجدى البدوي يشكر حكومة مدبولي: «قامت بواجبها الوطني»    سيد عبد الحفيظ يعتذر من خالد الغندور لهذا السبب    مجهولون يطلقون النار على المارة وإصابة مواطن في الأقصر    رفضت ترجعله.. تفاصيل التحقيق في إضرام نجار النيران بجسده بالبنزين في كرداسة    رحلة صناع "رفعت عيني للسما" من شوارع المنيا لشوارع كان السينمائي    وكيل مديرية الصحة بالقليوبية يترأس اجتماع رؤساء أقسام الرعايات المركزة    "الشراكات فى المنظمات غير الحكومية".. جلسة نقاشية ضمن فعاليات مؤتمر جامعة عين شمس    القومية للأنفاق تكشف معدلات تنفيذ محطات مونوريل غرب النيل (صور)    مواطنون ضد الغلاء عن مواجهة ارتفاع الأسعار: تطبيق القانون يردع كبار التجار    «كلمة السر للمرحلة القادمة رضا المواطن».. لميس الحديدي عن استقالة الحكومة    عدلي القيعي يرد على تصريحات شيكابالا: قالي أنا عايز اجي الأهلي    اتحاد الكرة يكشف الأندية المشاركة في دوري أبطال أفريقيا والكونفدرالية الموسم المقبل    غضب زملائه وينتظر عقوبة.. مصدر يكشف تفاصيل أزمة أفشة وكولر    وصلة ضحك بين تامر أمين وكريم حسن شحاتة على حلاقة محمد صلاح.. ما القصة؟ (فيديو)    بمرتبات مجزية.. توفير 211 فرصة عمل بالقطاع الخاص بالقليوبية    اليوم 240 .. آخر احصاءات الإبادة الجماعية في غزة: استشهاد 15438 طفلا و17000 يتيم    مصرع شاب في حادث مروري بالوادي الجديد    بسبب عشرات الصواريخ.. إعلام عبري: إصابة 6 من رجال الإطفاء بمناطق عدة شمالي إسرائيل    مصطفى بسيط ينتهي من تصوير فيلم "عصابة الماكس"    عدد حلقات مسلسل مفترق طرق ل هند صبري    خريطة قراء تلاوات 27 ذو القعدة بإذاعة القرآن الكريم    هل الطواف بالأدوار العليا للحرم أقل ثواباً من صحن المطاف؟.. الأزهر للفتوى يوضح    هل المال الحرام يوجب الطلاق؟.. أمين الفتوى يجيب    النائب العام يلتقي وفدًا من هيئة الادعاء بسلطنة عمان الشقيقة    صحة الفيوم تنظم تدريبا لتنمية مهارات العاملين بوحدات النفايات الخطرة    غدًا.. جلسة استئناف محامى قاتل نيرة أشرف أمام حنايات طنطا    أمين عام الناتو يبحث مع رئيس فنلندا ووزيرة دفاع لوكسمبورج التطورات العالمية    جيش الاحتلال يستهدف 4 أبراج سكنية في مخيم البريج وسط قطاع غزة    "قسد": إحباط هجوم بسيارة مفخخة لداعش في منطقة دير الزور السورية    بمشاركة 500 قيادة تنفيذية لكبريات المؤسسات.. انطلاق قمة "مصر للأفضل" بحضور وزيري المالية والتضامن الاجتماعي ورئيس المتحدة للخدمات الإعلامية    متربى على الغالى.. شاهد رقص الحصان "بطل" على أنغام المزمار البلدي بقنا (فيديو)    أكرم القصاص: حكومة مدبولي تحملت مرحلة صعبة منها الإصلاح الاقتصادي    خبير اقتصادى: الموازنة العامة تتلخص فى كلمتين "التنبؤ وإيجازه"    تامر عاشور يحيي حفلا غنائيا في الإسكندرية 4 يوليو    النائب العام يلتقي وفدًا رفيع المستوى من أعضاء هيئة الادعاء بسلطنة عمان الشقيقة    "الصحفيين" تكرم سعيد الشحات لمشاركته فى تحكيم جوائز الصحافة المصرية    بعد ادائها إمتحان نهاية العام.. إختفاء طالبة الفنية في ظروف غامضة بالفيوم    انتداب الأدلة الجنائية لمعاينة حريق نشب بقطعة أرض فضاء بالعمرانية    متى تبدأ تكبيرات عيد الأضحى وصيغتها    ما هي الأضحية في اللغة والشرع.. «الإفتاء» توضح    مليار و713 مليون جنيه، تكلفة علاج 290 ألف مواطن على نفقة الدولة    تقديم الخدمة الطبية ل 652 مواطنا خلال قوافل جامعة قناة السويس بقرية "جلبانة"    وزير الأوقاف يوصي حجاج بيت الله بكثرة الدعاء لمصر    الكشف وتوفير العلاج ل 1600 حالة في قافلة للصحة بقرية النويرة ببني سويف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الآفاق المصيرية للثورة المصرية (3/7) .. انفطارُ القَلْبِ وسَلْبُ السَّلْب
نشر في المصري اليوم يوم 09 - 03 - 2011

فى مقالة الأربعاء الماضى، طرحتُ هنا فكرةً بديهيةً مفادها أن السيول والثورات، كلتيهما، لا يجب أن تمتدَّ إلى الأبد على نسقٍ واحد. وكلتاهما تكون خيراً للبلاد والعباد، إذا شُقَّ مجراها وانتظم تدفُّقها. وكلتاهما تكون شراً إذا تفرَّقت فى الأرض بَدداً، على غير نظام.. وأشرتُ أيضاً إلى أن شعار الثورة المصرية (الشعب يريد إسقاط النظام) لا يعنى أن الشعب يريد شيوع الفوضى! ولذلك، فإن هؤلاء المتظاهرين للأبد، سواء كانوا صادقين أو مخادعين، إنما يبغونها عِوَجاً .. لأنهم إما غير مدركين لطبيعة الانتقالات القويمة للحالات الثورية (الظلم، الاحتقان، التظاهر، الانفجار، التغيير.. إلخ) أو غير حريصين على نجاح الثورة المصرية فى تحقيق أهدافها، بالخروج من مأزق الماضى ومظالمه الكثيرة، إلى أفقٍ مستقبلىٍّ واعدٍ.
ولدينا اليوم نقطتان تتعلقان بالآفاق المصيرية، المرجوَّة، للثورة المصرية. الأولى منهما هى حالة «انفطار القلب» الحالية، والنقطةُ الأخرى هى مبدأ «سَلْب السَّلْب» الذى سيأتى بعد قليل بيانُه، ويتضح مرادى منه.
■ ■ ■
لا يختلف أحدٌ حول نجاح الثورة المصرية التى أبهرت العالم، وما زلنا نعيش فى ظلالها منذ اليوم الخامس والعشرين من يناير.. لكن هناك اختلافاً يدور مؤخراً حول (درجة) هذا النجاح وتأثيره، فالبعضُ يعتقد أن الثورة ما دامت قد نجحت، فالواجب أن تتعدَّل الأحوال دفعةً، وتنصلح الأمور فوراً. فإذا لم يحدث بسرعةٍ ما يحبُّون، انفطرت قلوبهم حزناً، وبدا عليهم الجزع المتمثِّل فى الأيام الأخيرة بعباراتٍ من مثل: الخوف على مصير الثورة، القلق من الثورة المضادة، الحذر من عودة النظام السابق، الرعب من البلطجية والطلقاء من رموز الفساد.. وغير ذلك.
ولا شك عندى فى أن هذه «المخاوف» مشروعةٌ، بل واجبةٌ، ولكن بالقدر الذى يضمن امتداد الثورة وتطورها، ويعكس غاية الناس بنجاح ثورتهم. أما المبالغة والإمعان فى الخوف والقلق والحذر والرعب، وإطلاق العنان لهذه المشاعر بغير حدود، حتى تؤدى إلى حالةٍ عامة تنفطر معها القلوبُ جميعها، ويخيِّم الأسى على الناس فيفقدون «الأمل الفسيح» فى المستقبل، فهذا ما لا يمكن أن يكون مشروعاً أو واجباً. وبالمناسبة، فقد استعملتُ تعبير «الأمل الفسيح» تحديداً، لأنه بحسب الفقيه السياسى المشهور (الماوردى) صاحب كتاب (الأحكام السلطانية) هو أحد الشروط الخمسة لقيام الدولة: الإقليمُ، الشعبُ، السلطانُ الحاكم، الأمنُ المستتب، الأملُ الفسيح.
وهناك عديدٌ من العوامل الدافعة والمهيِّجة لحالة (انفطار القلب)، التى تغمر اليوم كثيرين من المصريين. وأهمها، فيما أرى، بقاءُ بعض الأفراد الفاسدين من الجماعة المسماة «أذيال النظام الفاسد» وبالتالى، وجود فزعٍ عند الناس من عودتهم، وجزعٍ من كونهم طلقاء.. وهو الأمر الذى يزيده سوءاً، ويهوِّله فى أذهان الناس، إمعانُ البعض فى التعبير عن هواجسه. فضلاً عن إطلاق الشائعات، والتلذُّذ بتداولها ونشرها. والمثال الأوضح على ذلك، ما جرى فى نهاية الشهر الماضى، قبل ساعات قليلة من إعلان التحفظ على أموال الرئيس السابق «مبارك» وحظر سفره خارج البلاد. إذ ذاع فى الليلة السابقة على نشر الخبر فى الجرائد، خبرٌ مريعٌ منقول من مفكرٍ وصحفىٍّ معروف لدى الناس، وعندهم مقبول، يقول ما ملخَّصه أن الرئيس مبارك لا يزال يحكمُ مصر من «شرم الشيخ» ويتحكَّم فى الحكومة القائمة، بالتنسيق مع الجيش.
وانفطر قلبُ الناس فى مصر، ليلتها، حتى جاءت الجرائد مع الصباح، وعلى صفحتها الأولى أخبارُ التحفُّظ والحظر على الرئيس السابق. وإذا علمنا أن الجرائد تُطبع فى ظهيرة اليوم السابق على توزيعها، أدركنا أن القرارات القانونية الخاصة بالتحفظ والحظر، كانت قد صدرت من قبل صدور شائعة «شرم الشيخ» وانتشارها السريع.. فضلاً عن أن إصدار القرارات والأحكام القانونية، تلزمه فترةُ إعدادٍ وتسويغ للحكم أو للقرار.
إذن، لم يكن هناك داعٍ لإشاعة المخاوف بين الناس، وتخويفهم بأمور تنفطر معها القلوبُ حُزناً وأسىً. ولا عبرة هنا بقَوْل بعضهم، إن علينا «الانتباه» وتعلية «سقف» المطالب، حفاظاً على مكاسب الثورة، واتقاءً للتقهقر إلى الخلف مرةً أخرى.. ولهذا القائل نقول: أما «الانتباه» فهو واجبٌ، ولكن «العمل» أوجب وأكثر أهمية. ولا عمل (حقيقى) إلا بالطمأنينة العامة، التى تتمثل فى استقرار الأمن والثقة فى الاستقرار والأمل فى الغد. وأما اتقاءُ التقهقر برفع سقف المطالب، بغير توقُّف، فهو إنهاكٌ لا طائل تحته. لأن الأنظمة التى قامت فى عشرات السنين، مهما كان فسادها، لا يمكن أن تمحوها عشرات الساعات والأيام. وقد سقطت رؤوس الفساد، ولايزال سقوطها يتتالى كل يوم، ولسوف تُقطع من بعد ذلك الذيول، فيتلاشى شبحُ النظام السابق (تدريجياً) لأنه ببساطة، لم يعد مقبولاً ولا مناسباً للزمن الآتى.. ومن الطبيعى، والمنطقى، أن يجاهد النسق السياسى السابق (الفاسد) من أجل البقاء، مثلما تجاهد اليوم الأنظمة الديكتاتورية العربية للبقاء لأطول فترة ممكنة. لكن هذه الأنظمة والأنساق الفاسدة، مقضِىٌّ عليها لا محالة، وما موعد سقوطها التام واختفائها، إلا مسألة وقت.
■ ■ ■
ومن الأمور الداعية لانفطار القلوب وشيوع القلق، هيجان تلك الطائفة العارمة من المستثمرين للأبد (بالمعنيين المباشر والمجازى للاستثمار)، وهم المتاجرون بكل فرصة تسنح لهم، مهما كانت الخسائر التى قد تلحق بغيرهم. بل إنهم لا يتورعون عن المتاجرة بأعراض الناس، من أجل أهدافهم الاستثمارية. وعلى الرغم من أن النظام السابق سقط رأسه (مبارك) ونائب رئيسه (سليمان) ورئيس وزرائه (شفيق) ورأس العَسَس (العادلى) والبقية تتوالى.. فإن الزاعقين من (المستثمرين) يصخبون فى وسائل الإعلام متشنِّجين ومتَّهِمين كل مسؤول سابق بأنه كان فاسداً، أو بالتعبير العامى، الذى صار صفةً جارية على الألسنة (فلان موش كويس).. ولا شك فى أن حالة الغيوم العامة، والضبابية التامة، تناسب «القِلَّة» من هؤلاء المستثمرين للأبد، الزاعقين إلى الأبد، المنافقين إلى الأبد. ولذلك نراهم يحرصون على إبقاء التوتر، بالمبالغة فى إطلاق الشائعات وتجريح الجميع، مع المسارعة إلى جنى (ثمار الثورة) من قبل أن يحين موعد الحصاد، بل من قبل أن تنبت البذور التى أودعتها الثورة المصرية فى تربة هذا الوطن.
ومن المستثمرين للأبد، طائفةٌ تتصدر وسائل الإعلام لتصادر على جميع (الحلول) وإن كانت مؤقتة أو واجبة بسبب ظروف مُلِحَّة وعاجلة. ومنهم طائفةٌ أخرى سارعت إلى اللحاق بركب الثورة بعدما لاحت فى الأفق معالم نجاحها، أمَلاً فى الحصول على «أدوار» فى الفترة المقبلة، وتقديم أنفسهم للواقع العام باعتبارهم الشهداء المنسيين أو الجنود المجهولين. ومنهم طائفةٌ همَّت أثناء انشغال البلاد والعباد، بتعلية «أدوار» مخالفة فوق رؤوس البيوت والعمارات، وبالبناء المخالف فوق الرقعة الزراعية (ولا أعرف سبباً للتأخير فى إصدار الأمر العسكرى بتجريم هؤلاء واعتقالهم) ومنهم طائفة تافهة القدر تسعى اليوم لاستغلال الفراغ الأمنى، التام والجزئى، فى الأنحاء التى يضمنون فيها الفرار بأفعالهم.
على أن ظهور هذه الطوائف، فى هذه المرحلة التى تمرُّ بها البلاد، هو أمرٌ معتاد فى مثل هذه الظروف. غير أن أمرهم، بالقطع، سوف يؤول إلى الزوال مع زوال حالة «الاضطراب» الحالية، ومع انتباه الجموع إليهم وعدم الإفراط فى الرهبة منهم.. بالإضافة إلى «عاملٍ» مهم، ومؤثر، لا بد وأن يشيع فى نفوس الشعب ويُطمئن نفوسهم ولو بقدرٍ قليل. وهذا «العامل» هو ثقةُ المصريين فى مستقبل بلدهم، وإيمانهم بأنهم هم الذين يصنعون هذا المستقبل، بعيداً عن التوهمات المصرية المفرطة التى طالما أشرت إليها، ومنها القول بأن «مصر مستهدفة» أو بأن «مصر محروسة» .. وأقول للمرة الألف، لا هى مستهدفة ولا محروسة إلا بالقدر الذى نحرسها به، ونُحبط خطط استهدافها.
■ ■ ■
ومبدأ «سَلْبِ السَّلْب» الذى ذكرتُ سابقاً أنه واحدٌ من ملامح الفلسفة الماركسية، التى لا أحبها ولكنى أحترمها، هو من المبادئ التى يجب أن نضعها نصب أعيننا فى المرحلة الحالية.. والفلسفة الماركسية، حسبما عرفناها على مقاعد الدرس بأقسام الفلسفة، لها جانبان هما «المادية الجدلية، والمادية التاريخية» ويقوم الجانب (التاريخى) منها على تصوُّرٍ معين لتطوُّر المجتمعات الإنسانية، وفقاً لتطور نظم «الإنتاج»، حيث قرَّر ماركس أن المجتمع الإنسانى انتقل من الحالة الشيوعية الأولى، إلى حالة الإقطاع، إلى الرأسمالية، إلى الاشتراكية التى بشَّرت بها هذه الفلسفة، أملاً فى استعادة الحالة الشيوعية الأولى، إذا ما سيطر العمالُ على وسائل الإنتاج (وهو الحلم الماركسى الذى لم، ولن، يتحقق كاملاً).
أما الجانب «الجدلى» من المادية الماركسية، وهو المسمَّى فى اصطلاح الفلاسفة بالجانب المادى «الديالكتيكى» فإنه يقوم على ثلاثة مبادئ أو قوانين رئيسية، هى: وحدةُ الأضداد وصراعها، الانتقالُ من التغيُّر الكمى إلى التغيُّر الكيفى، سَلْبُ السَّلْب.
ومقصود ماركس، والماركسيين، بقولهم «سَلْبُ السَّلْب» هو أن كلَّ مرحلةٍ لاحقةٍ من مراحل التطور الاجتماعى، لا تلغى آثار المرحلة السابقة عليها إلغاءً كاملاً. وإنما يتطوَّر المجتمع الإنسانى عبر مراحله المختلفة، باستبقاء المرحلة التالية الجزء (الإيجابى) الذى تمَّ إنجازه فى المرحلة التى قبلها، وأما الجزء (السلبى) فهو الذى يتم سلبه وإلغاؤه.. لأنه لا معنى لهدم منجزات قام بها المجتمع فى المرحلة الرأسمالية (كالمصانع مثلاً) من أجل تأسيس المرحلة الاشتراكية التالية. وقد ضرب لنا الأستاذُ، أيام التلمذة، مثالاً مبسَّطاً لشرح هذه الفكرة بقوله إنه عند قيام الجمهوريات يتم سلب السلب «الملكى» السابق، بالقضاء على الاستغلال التام لثروات البلاد، وإبقاء الإيجابى من المنجزات كالحدائق العامة.. سألتُ أيامها الأستاذ، ولم يُجِب: عندما استولى الضباط الأحرار على القصور الملكية الفخمة، وسكنوا هم فيها من دون الشعب، هل كان ذلك سلباً للسَّلْبِ؟
ومع أن هذا المبدأ أو القانون المسمَّى (سلب السَّلْب) هو ماركسىٌّ بإجماع الآراء، إلا أنه يتوافق مع المفاهيم العامة فى ثقافتنا، بل ويتطابق مع بعض الأصول الإسلامية! فقد ورد مثلاً فى القرآن الكريم، ما يمكن أن يكون أصلاً لهذا المبدأ أو القانون، وذلك فى قوله تعالى (فأما الزَّبد فيذهب جُفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض) وجاء فى الحديث الشريف: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام».. وجاء فى الحديث الشريف أيضاً، فى معرض قواعد القتال والحرب: «لا تقتلوا الذرية فى الحرب».. وهى إشارات مباشرة إلى أن الأمور (السلبية) فحسب، هى التى تؤول إلى زوالٍ، بينما ينبغى الحفاظ على (الإيجابية) منها. غير أن الآية الكريمة المذكورة تشير إلى هذا الأمر على اعتبار أنه سُنَّة كونية، وما جاء فى الحديث الشريف.. يدخل ضمن باب الأخلاق العامة، بينما دعا ماركس إلى (سلب السلب) على اعتبار أنه «قانون» واجب الاتباع وفقاً للعقيدة الثورية التى دعا إليها.. ولو كان ماركس مسلماً لقلنا إنه استفاد من التراث الإسلامى فى فلسفته، لكنه كان يقدم فلسفته مستنداً إلى الجدل (الديالكتيك) عند هيجل، وإلى التراث الأوروبى تحديداً. ولذلك، فعندما انتبه ماركس إلى أن هناك تجارب إنسانية كبرى، تخالف السياق الأوروبى، سارع إلى تطوير فلسفته وكتب: النمط الآسيوى فى الإنتاج.
المهم الآن، أن مرادى بالتذكير بمبدأ سَلْب السَّلب، هو الإشارة إلى القاعدة (المنطقية) القائلة بأن سلب السلب إيجاب. أو بعبارة أخرى أكثر وضوحاً وانطباقاً على واقعنا المعاصر الإشارة المباشرة إلى خطورة تلك النغمة السارية بالأجواء المصرية، والجارية مؤخراً على الألسنة. أعنى محاولة البعض تشويه جميع الأعمال التى تمت، والأشخاص الذين تولوا الأمور، فى الفترة السابقة على قيام ثورة يناير. وكأن الأشياء فى الفترة السابقة كانت شراً مُطلقاً أو خيراً مطلقاً، وكأن الناس كانوا إما ملائكة أو شياطين. وبالطبع، فليس هناك (مُطلق) فى الشر والخير عند الإنسان، والبشرُ ليسوا ملائكة وليسوا شياطين.. ومع أنه لا خلاف فى أن الزمن السابق على ثورة المصريين الأخيرة، كان فاسداً فى مجمله أو معظمه. إلا أنه بالقطع لم يكن تام الفساد ولم يكن شراً كله.. وإلا لما كان بالإمكان أن تقوم الثورة أصلاً، ولا كان فى البلاد شعب (نبيل) من شأنه أن يثور.
ومن هنا، فإن صخب بعضهم ضدَّ (كل) ما سبق، ومحاولتهم إدانة كل شخص كان يعمل فى إطار النظام السابق، وكل عمل تم فى الفترة السابقة؛ إنما هو موقف غير رشيد، وغير مدرك لحقيقة بسيطة تقول إن «مبارك» فى السنوات الخمس الأولى من حُكمه، لم يكن سيئاً بالقدر، الذى كان عليه فى الأعوام الخمسة الأخيرة من حُكمه. وكذلك «الفساد» الذى ساد مؤخراً، وعَمَّ وطمَّ، لم يكن سائداً فى ابتداء زمنه الرئاسى بالقدر نفسه.
إذن، لم تكن سنوات «مبارك» كلها شراً، لكنها كانت تزداد سوءاً، وكان من الواجب إيقاف تدهورها.. ولم يكن جميع الأشخاص فى الفترة السابقة فاسدين، وإن كان الفساد قد لحق بكثيرين منهم.. ولم تكن الأعمال التى تمت بمصر، جميعها، أعمال سوءٍ وفسادٍ وشرٍّ، وإلا فكيف ننظر إلى منجزات مثل مترو الأنفاق، ومكتبة الإسكندرية، والجامعات الجديدة، وشبكة الطرق، والطفرة الكبيرة فى مجالات السياحة والاتصالات.. وكيف نحكم بالسوء على أشخاص عملوا فى ظل النظام السابق، أو تعاملوا معه، من أمثال الدكاترة محمد غنيم ويحيى الجمل ومحمود زقزوق وكمال الجنزورى. فهؤلاء، وغيرهم كثيرون، مهما كانت لدينا من ملاحظات عليهم، ومهما كان من مقدار تعاملهم مع النظام السابق؛ إلا أنهم فى المجمل والتقييم النهائى أشخاص جيدون، وفيهم من (الإيجاب) ما هو أكثر بكثير من (السلب).
والحكم ذاته ينطبق على قادة الجيش، الذين كانوا أقرب إلى شخص «مبارك» وأكثر التصاقاً بنظامه، نظراً إلى طبيعة عملهم، ومع ذلك فقد انحازوا للشعب، وكانت مواقفهم العامة إيجابية، مهما لحق بها من ملاحظات.. وبالتالى، فإن الأقل شأناً من هؤلاء المذكورين، ممن أداروا المصالح والجهات الحكومية؛ فيهم بالقطع فاسدون تجب محاكمتهم على ما قد يكونون قد ارتكبوه من مفاسد، وفيهم أيضاً صالحون لا ينبغى أن نضعهم مع الفاسدين فى سَلَّة واحدة، ونُلقى بالجميع فى البحر.. كى تتحقق أهداف الثورة!
■ ■ ■
إن نجاح الثورة المصرية فى الفترة القادمة، مرهونٌ بقدرتنا على التمييز بين السلبى والإيجابى فى المرحلة السابقة، ومرتبطٌ بقدرتنا على سلب السلب (وإيجاب الموجب) من دون خلطٍ فى الأمور أو تخليطٍ بينها.. وهو الأمر الذى لا يمكن أن يتحقق، إلا بإعمال المنطق والتفكير الرصين. وإلى لقاءٍ قادم، الأربعاء المقبل، حيث نورد ما نراه صواباً بخصوص الحالة الأمنية العامة فى مصر، فى ظل وجود الجيش المصرى فى شوارعنا. وأظن، إذا لم يجدَّ جديد، فإن المقالة القادمة، سوف يكون عنوانها: حَيرة الدَّبَّابة عند طنين الذُّبابة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.