في ظل أجواء مشحونة ومشبعة بجثث ملطخة بدماء ضحايا الانفجارات، فى مناظر تعمل على إلغاء ما تبقى من عقلانية لدى البعض، المطلوب الآن التصويت على دستور- آخر دستور أنتجته المحروسة الولادة.. ويلاحظ أنه لأول مرة منذ 2010، هناك حملة ممنهجة فى الإعلام «الرسمى» فى اتجاه التصويت «الميرى» بنعم. أعنى بالإعلام الرسمى هنا ليس فقط المنابر «القومية»، إنما أيضا الصحف والقنوات الخاصة المرخص لها رسميا. هكذا يتلخص المأزق الذى وقع فيه المجتمع المصرى منذ 2011، فصار محاصرا ما بين خطر دولة دينية شمولية، ودولة أبوية، موجهة ومحتوية للفرد، وربما مستخدمة الخطاب الدينى بطريقة مغايرة فى سبيل السيطرة- بل، تاريخيا، هى نفسها التى مهدت، عبر العقود، من خلال خطابها الإعلامى ونظام تعليمها الرجعى لصعود الخطاب الدينى السياسى.. بين دولة دينية مطلقة، ينتقل تدريجيا فيها إعلام الشارع وقواته الأمنية ليعتلى إعلام وأمن الدولة الرسمى، الذى يكفر من يخالفه.. وبين الدولة «الأبوية» التى فوضتها «الجماهير» فعليا لتغلق المجال العام، لنعود لوضع يحرم الجهر رسميا ب«لا»- ليس فقط «لا» النابعة عن تأييد لتيار تكفيرى، إنما أيضا أى «لا» رافضة لإجماع عام تخوينى، يتهم كل من خالفه بالعمالة.. تماما كما جاء فى أحد إعلانات قناة فضائية مؤثرة، التى اعتبرت أن «نعم» معناها «لا» لعملاء الداخل والخارج.. مما يعد مؤشرا مهما لطبيعة التحولات الحالية. ومن يتبن مثل هذا الخطاب يعرف أن النهج المؤسس له سيقابل بالقبول والتقبل العام بل الترحيب، لأن القطاع الأكبر ممن أيد تحولات الصيف الماضى لم يفعل ذلك خوفا من الدولة الدينية، إنما أساسا ذعرا من الفوضى وقلقا من الانفلات الأمنى. لم أقرأ الدستور المقترح بالتفاصيل. ربما كنت سأجد الوقت إن لم أعرف أن الموضوع خرج من «إيدى»، ومن «إيدك» أيضا.. لأننا وصلنا بالفعل لوضع عرفناه جيدا من قبل.. فإعادة انغلاق المجال العام تعنى انعدام معنى المشاركة المباشرة فى العملية السياسية.. فرغم أنه من الواضح (ودون قراءة متقنة) أن نص الدستور المقترح أفضل من دستور العام الماضى، فإنه لن يعنى الكثير عمليا.. لأنه فى ظل الأوضاع التى نعرفها فعلا جيدا، فليس من المرجح أن يعنى الدستور أى شىء أكثر مما كان يعنى دستور 1971، العظيم فى مجمله على الورق. المحصلة أننا فقدنا أهم «إنجازات» يناير 2011، المتجسدة فى انفتاح المجال العام، لنعود لنقطة الصفر، بعد خسارة آلاف الأرواح ومليارات الدولارات، والسبب الأساسى هو فشل النخبة السياسية والثقافية فى إيجاد بديل تعددى للدولة التسلطية أو الشمولية الدينية. هذه نتيجة بائسة.. القضية إذن ليست فى دستور، غالبا، معدوم الفاعلية، إنما فى كيفية بناء بديل مستقبلى.. فالعودة للماضى من الصعب أن تدوم. لذلك، رغم قيود المرحلة، هناك فرصة جديدة لتبلور بديل مقنع ومتماش مع ركب الحضارة المعاصرة عند نشوب التحول القادم.. وليس من الصعب تخيل أن، فى غياب ذلك البديل، سيكون هذا التحول قاسيا فعلا.