لم أشاهد مباراة الجزائر ضد الولاياتالمتحدة، لأنى كامن حاليا فى الساحل الشمالى، فى محاولة نهائية ل«تشطيب» كتاب باللغة الإنجليزية اشتغلت فى كتابته لسنين عديدة، وينتطره الناشر فى شهر سبتمبر المقبل، لذلك قررت التوقف تماماً عن مشاهدة التلفاز، باستثناء بعض المباريات المقبلة فى التصفيات النهائية للكأس، مع ذلك، دخلت مباراة أمريكا والجزائر مكان سكنى على الساحل بطريقة لم أتوقعها. بالنسبة للكثيرين من النخبة المصرية صارت أمريكا كال«تابو» فى مجتمع تسوده النمطية، أصبح حتى ذكر ذلك البلد بالخير خلال خطابنا العام يجسد نوعاً من الخيانة، مع ذلك فإننى لم أعرف حتى إن المباراة بين الجزائر وأمريكا كانت دائرة إلا من صيحات الجيران، وعمال الصيانة الملتفين حول أجهزة التليفزيون، وذلك عندما أحرزت الولاياتالمتحدة هدفها فى مرمى الجزائر خلال الوقت الضائع... وكانت صيحات الفرحة تلك توحى وكأن المنتخب المصرى هو الذى أحرز الهدف. وأول سؤال طرأ فى ذهنى كان: لماذا هذه الازدواجية فى المعايير والتخبط فى التعبير عن الشعور، حتى يبدو من اللائق دائما التعبير عن الكراهية لأمريكا عبر وسائل الإعلام الرسمية- وأعنى بذلك الصحافة والإذاعة المرئية والمسموعة المسجلة رسمياً، بصرف النظر عن كونها حكومية أو غير ذلك- ثم، فى سياق آخر، غير مسجل رسميا على الأقل، تبدو الصورة مختلفة تماما، فنرى هذا الحماس الشديد تجاه فريق تلك الدولة «الإمبريالية» عند هزيمته للجزائر، التى من المفروض، حسب قول الكثيرين، أن ما تربطنا بها علاقات الدم والدين والثقافة واللغة إلخ... رغم كل المشاكل الكروية التى خضناها معها عبر السنين. ربما إن السنين الطويلة التى قضيتها فى دول الغرب، من بينها الولاياتالمتحدة، تجعلنى لا أخفى إعجابى الشديد بها كفكرة قبل أن تكون دولة، فهى أول من أرسى دستوراً تحررياً مبنياً على عقائد مفكرى عصر التنوير فى القرن الثامن عشر، التراث المتجسد الآن فى مجتمع منفتح صار متعدد الثقافات والجنسيات رغم عيوبه الكثيرة التى لا يمكن أن ينكرها أحد.. ففى ظل مجتمع منفتح حر هناك ضغط مستمر فى اتجاه الإصلاح، هكذا استطاع المجتمع الأمريكى اجتياز مأزق العبودية والتفريق العنصرى الصريح فيما مضى، لأن تركيبة الحكم فيه، رغم عيوبها الكثيرة، مبنية على نمط عقلانى، مكن المجتمع من أن يتطور، وأن يصحح نفسه، ومن المرجح أنه سيستمر على ذلك النهج فى المستقبل. لكن هل هذه كانت هى حيثيات تشجيع المنتخب الأمريكى ضد الجزائر؟ بالطبع لا، لكنى أعتقد أنه مازال الكثير من المصريين يحسون فطريا أن الولاياتالمتحدة، رغم كل شىء، تجسد بعض هذه القيم النبيلة.. أما السبب الأكبر وراء ذلك التشجيع فعبّر فى أساسه عن شماتة سطحية.. من ناحيتى، لا أعتقد أن هذا سلوك صحيح، فأنا لا أكره الجزائر الشعب أو حتى الدولة، لكنى لا أحبها كفكرة، كما هى متجسدة حالياً، ذلك لأن «فكرة» الجزائر الآن هى فكرة تسلطية.. فالجزائر ليست بها حرية فكر حقيقية أو تعدد سياسى يذكر، وكان صراعها الأخير مع مصر الرسمية فى معركة ال«مونديال» مجرد «خناقة» بين فريقين سياسيين مفلسين فكريا وإنسانيا وأخلاقيا، اختصروا الحياة فى صراعات صورية تكاد تجردها من معانى المصداقية والجدية. أعتقد أن هذا المشهد الكئيب يجسد مشكلة كامنة فى طبيعة العلاقة الذهنية التى تربطنا بالعالم العربى، والتى أعتقد أنها أبعدتنا عنه أكثر بكثير مما قربتنا منه، وأبعدتنا فى الوقت نفسه عن بقية العالم المعاصر، فلنعد مرة أخرى لمسألة روابط الدم والثقافة والدين.. أعتقد، بكل بساطة، أن هذه حيثيات عنصرية لا يمكن أن يشيّد أحد على أساسها علاقات صحية ومجدية بين الشعوب، ولا حتى داخل الدولة الواحدة، لأن هذا النوع من العلاقات ال«عصبية» يولد عنفاً مولداً للصراعات، لأنه ليس مبنياً على إرساء التعددية والحرية، بل على فكر وحدوى لا عقلانى يستخدم لل«تكميخ» على أوجه القصور فى المجتمع الذى يسوده.. والعلاقات المبنية على هذا النوع من الفكر لابد أن تفشل، لأنها ليست مشيدة على أساس صحى، والمرض الكامن فيها معد ويندار على من حمله، وقد عرف العالم منذ زمن بعيد تداعيات هذا المأزق الذى تولده النزعات القومية القبائلية، وذلك فى صورة أهوال الحروب العالمية. الخلاصة: بدلاً من الشماتة فى الجزائر وفريقها، علينا إعادة تقييم علاقاتنا بالعالم على أساس فكرى تحررى وليس دينى أو عنصري؛ يجب أن تكون علاقاتنا مبنية على أساس آمالنا المستقبلية، فلنتقرب ممن هو أقرب فكرياً وعملياً للمجتمع الذى نتطلع إليه ونرفض من كان نمط حياته وتأثيره مضراً... فالأساسى هنا هو تبنى القيم المتجسدة فى الحرية والتعددية والديمقراطية، القيم الكونية التى يجب أن تتماشى مع أى دين أو ثقافة أو لون أو دم، التى تجسد تطوراً عقلانياً يربط بين الناس، وربما من هنا يبدأ الطريق نحو الوحدة العربية الحقيقية، وحدة دول لا تحتفى فقط بماض مشترك مثالى متخيل، إنما أيضا بمستقل تعددى، منفتح على العالم وتسوده الحرية.