صدام عالمين.. العالم الأول عالم حى، غزير وشامِس، يتطلع لفك القيود التى تفقد المرء كرامته، يتطلع لفك الخناق المفروض عليه، ويتطلع لإفراغ الطاقات الخلاقة لدى الإنسان.. وعالم مضاد: يعيش ويزدهر فى ظل جور ظلام العفانة الخانق، ويتسم بالشلل والعجز والعنف الفكرى، والفعلى أيضا. فى ذلك تلخيص لمنظر الصراع الذى شهدته مصر منذ تحركت الجماهير بمختلف اتجاهاتها الفكرية والعقائدية، وبكل طبقاتها الاجتماعية، فى سبيل إسقاط الاستبداد الممزوج بقدر مذهل من القصور فى التصور والحماقة العاكسة لعقل جامد ومغيب وفاقد المصداقية، عقل عالم مصر الثالث الذى انفصل بالفعل عن الواقع بعد أن عجز عن فهم طبيعة ونمط وإيقاع السيل الهائل من الأحداث المتتالية التى فرضها العالم الأول عليه. أما العالم الثانى فتمثل فى الجيش المصرى. فى ظهيرة يوم 28 يناير، فى معركة حاسمة استمرت ساعات، بدت حركة الصدام فوق جسر قصر النيل كبندول الساعات القديمة الذى يحسب الزمن، فخلال شد وجذب تلك الساعات التاريخية تأرجحت كفت المتظاهرين (ومعظمهم سفراء من العالم الأول) بالمقارنة بكفة قوات الأمن التى بعث بها العالم الثالث، هكذا تحركت جبهة الالتحام، التى فصلت العالمين، عدة مرات من جانب لآخر من الجسر. ثم قبل غروب الشمس بقليل، انهارت صفوف قوات الأمن، ودقت الساعة لتنذر بداية النهاية لحقبة فى تاريخ مصر. هدأ الوضع نسبيا بعد دخول العنصر الثانى الذى بدا محايدا.. لكن لأن عالم مصر الثالث عنيد ومغيب فلم يفهم الدرس إطلاقا. فطل علينا من شاشات التلفاز ليلقى كلمة مبتذلة، تتسم بالغطرسة والعناد وقصر النظر الذى يصل لحد العمى، وتتضمن قرارات ووعودا قد فات أوانها وعفا عليها الزمن وسبقتها الأحداث، حتى صارت بلا معنى أو مضمون، بل يكاد المرء لا يعرف إذا كان من المفروض أن يضحك أو يبكى عند سماعها، فمضمونها بدا ساذجا فعلا فى غروره المغيب. وتوالت القرارات والوعود الواهية المستفزة فى حين احترقت أجزاء من وسط القاهرة، وانتشرت أعمال العنف والنهب والسلب.. وكانت مبانى وسط البلد العريقة الشامخة قد شاهدت مثل هذه المناظر من قبل، ذلك عندما انهار عالم آخر منذ ثمان وخمسين عاما بالتمام والكمال، ففى 26 يناير عام 1952 احترقت القاهرة، وقد تناولنا بالتفصيل فى الكثير من المقالات فى هذا المكان- مثلا «دروس المستقبل فى بقايا أيام زمان»- أوجه التوازى والتشابه بين الأسباب التى أدت إلى انهيار عالم مصر الليبرالية عام 1952 والأوضاع التى أدت فى النهاية لثورة مصر 2011، وهى تتلخص فى غياب العدالة وإمكانية الحركة الاجتماعية والفجوات المادية والثقافية الواسعة والعميقة، وحالة اللا مبالاة والتغييب عن الواقع التى تسود أحيانا عقول بعض النخب المصرية والتى تؤدى فى النهاية إلى انهيارها. وقد جاءت نهاية المقال المذكور هكذا: «إن الطريق الوحيد أمام الحكومة الحالية هو التحرك نحو مجتمع أكثر انفتاحا سياسياً واقتصاديا، يشعر فيه الناس بالمسؤولية والانتماء.. هذا إذا لم نكن نريد أن تتجول الأجيال القادمة وسط أحياء جاردينيا ومارينا فى أسواق الأنتيكات باحثة عن عالم النخب المسيطرة حاليا فلا تجد له أى أثر حى يذكر»، كما حدث مع بقايا إسكندرية العصر الليبرالى مثلا. وقد حدثت فعلا فى الأيام الماضية عمليات نهب وسلب وفوضى، ويبدو أن من ضمن أسباب هذه الأحداث المؤسفة صراعا بين تيارات داخل النظام الحاكم، تماما كما كان الحال عام 1952.. لكن ما لم أكن أعلمه عندما كتبت هذه الكلمات هو حجم العالم المصرى الأول: هذا العالم الذى تتكاتف فيه كل فئات المجتمع، بفئاتها واتجاهاتها وأعمارها المختلفة، لتضحى فى سبيل البحث عن الخلاص من خنقة التسلط المتغطرس وأيضا فى سبيل تأمين شوارع البلاد ومنازل الناس من جور الإجرام.. ولا أعتقد أنه يمكن أن تكون هناك بداية أفضل للحراك نحو مجتمع مدنى رصين. وفى الأيام التى تلت انسحاب قوات الأمن المركزى، تمركز عالم مصر الأول فى وسط القاهرة للتعبير عن غضبه تجاه إصرار العالم الثالث على عدم التزحزح عن مواقفه المتحجرة، وعجزه عن التعامل بطريقة جادة وأخلاقية، خالية من المراوغة، مع الواقع الجديد.. مع ذلك، امتزج ذلك الغضب بمناخ حافل يتطلع للحياة وللحرية ولإعادة الاعتبار لذات الإنسان المصرى.. وكان اللافت للنظر فعلا، بالذات فى ليلة الاثنين الماضى، مدى تطور طرق التعبير التى صار بعضها مسرحيا وساخرا وامتزج الآخر بالموسيقى والرقص.. ومن بين تلك المناظر اللافتة للنظر التى لن أنساها هذا الرجل الذى علق يافطة حول عنق قطة تطالب بالتغيير!.. وتجمع حولها الناس، بعضهم مصورون وصحفيون وسياح وأجانب مقيمون فى مصر، وكلهم تم الترحيب بهم وسط الجماهير بروح سمحة وكأنهم جزء منها.. هذه هى صورة عالم الحياة والحرية المتسامح، القابل للتعددية، الذى قابل نده الكئيب، المكبوت والعنيف.. وازدادت الأعداد يوم الثلاثاء حين وصل الناس لوسط القاهرة من جميع أنحاء البلاد، ولكن طرق التعبير لم تختلف كثيرا، فكانت سلمية وخلاقة، وكان التنظيم- المتمثل فى إجراءات الأمن ومعونات الغذاء والبطاطين- على مستوى لا نعرفه عادة فى مصر.. وأخيرا فى نهاية هذا اليوم العظيم طل علينا العالم الثالث بتصريحات بدت تتسم بالجدية والمسؤولية النسبية.. لكن فى اليوم التالى كشف العالم الثالث عن وجهه البلطجى الحقيقى مرة أخرى، وأعتقد أنه بذلك انتحر نهائيا. بقى أن نتمنى أن تبقى روح البلاد التى شيدها عالم مصر الأول، وألا يتم تذويبها أو إحباطها. ولنلاحظ أن استمرار النظام القائم دون تغيير جذرى من المرجح ان يعيد نفس المواجهات ولكن فى سياق غارق فى بحر من الدماء المرة المقبلة.. ونحذر من محاولات «تأميم» مصر الوليدة- التى خلقتها تضحيات عالم مصر الأول- من قِبل بقايا النظام، أو حتى من خلال فرض الحكم العسكرى، فلا سبيل للعودة للوراء.. أو أن تختطف تلك الإنجازات قوى سياسية لا تعترف بالتعددية، بل تريد فرض رؤية وحدوية.. فهذه الثورة ساهمت فيها كل فئات المجتمع، ويجب أن يعكس الواقع الجديد تلك الحقيقة.