مهنة توارثتها الأجيال رغم تعقيدها، فالرسومات الهندسية، والقياسات، والأدوات والتكلفة، لا يقوم بها خريجو كلية الهندسة، بل مجموعة من الصنايعية توارثوا المهنة أباً عن جد. ما إن تذكر منطقة الأنفوشى، حتى ترسو صور صانعى السفن على ذاكرتك، عشرات الورش ذات الألوان الزاهية، على جانبى الشارع الرئيسى، وعلى الرغم من قدم الأكشاك، فإنها تشهد على استمرار الصنعة وعراقتها. يحكى مسعود محمد مسعود، صاحب ورشة لصناعة السفن، ملامح مهنته فيقول: «أنتمى للجيل الرابع لصناعة المراكب ويخوت الصيد، فورثت المهنة أبا عن جد، والمنطقة دى كانت موجودة من أيام الملك فاروق، هو اللى اهتم بيها وطورها، لحد ما خلاها المنطقة الأولى على مستوى الجمهورية فى صناعة المراكب واليخوت». «مفيش شغل المدة الأخيرة، الحرفة دى قربت تنتهى لو الدولة مهتمتشى بيها» هكذا يرى مسعود، فالطلب على صناعة المراكب واليخوت قلّ مقارنة بالسابق، مضيفاً: «الشغل هنا حسب الطلب، فيه أوقات مفيش شغل، يعنى إحنا بقالنا تقريبا 3 سنين والشغل نايم خالص، فالمحافظات التى تطلب المراكب لا تحتاج لأنها شبه مستكفية». يضيف آخر: «زبونى غالبا من القاهرة أو من أى محافظة، ولكن غالبا من شرم الشيخ، ولكن المشكلة الرئيسية التى نعانى منها هى نقص التراخيص، فحتى بعد أن يتم تصنيع المركب أو السفينة لا نحصل على ترخيصها بسهولة وبالتالى كل ذلك يعوق لجوء الزبون الينا». حسب طول المركب يتم تحديد الأشخاص الذين يعملون فى صناعته، فالمركب ذو ال40 مترا يستلزم 10 أشخاص تقريبا لصناعته، أما إذا كان طوله 20 مترا فيحتاج إلى 4 أو 5 أشخاص، وتستمر صناعته من 6 أشهر إلى سنة تقريبا. «عندما تتاح لى الفرصة سأقوم بتعليم الحرفة لأولادى حتى لا تندثر» هكذا يقول عم شحاتة القبطان، رجل فى الخمسين من عمره، يعتبره الصنايعية من المعلمين الكبار فى الورش، فيقول: «بقالى 50 سنة فى المهنة دى، أنا صنعت مراكب وصل طولها إلى أكثر من 50 مترا، كانت مراكب كبيرة، ووفقا للطلبية بحيث يكون بداخل كل مركب 12 غرفة تقريبا، يعنى عبارة عن شقة متنقلة». لا يصنع عم شحاتة المراكب الكبيرة لأنها تحتاج لإمكانيات كبيرة، لا يستطيع الصنايعية فى الورش صناعتها، ولأن تكلفتها عالية فلا يستطيعون دفعها. وتابع: «هذه الحرفة لا يستطيع أى شخص القيام بها، وتحتاج لمواد خاصة، فنحن نستخدم خشب الشجر فى تصميم الهيكل الأساسى للسفينة، وأنواعا أخرى مثل المجنو، والأرو والسويد، وأحيانا ترى مراكب مصنوعة من الحديد، ولكنها تكون قليلة». ويتحدث بفخر قائلا: «أول من صنع اليخوت على الطريقة الصحيحة هم صنايعية الإسكندرية، وأخذها منهم أهل رشيد، وفتحوا هنالك ورشا، ولكن الإسكندرية هى الأساس طبعاً». 45 ورشة تقريبا تجدها مرصوصة على جانبى الرصيف، ملونة بألوان كانت زاهية وأحرقتها الشمس، يطل أحد الصنايعية برأسه ويقول: «شايف الأكشاك دى نصها قديم والنص التانى جديد، المهنة دى دخل عليها ناس كتير جديدة، وهى حاجة كويسة عشان متتنساش، لكن المشكلة إن الأرض المبنى عليها الأكشاك دى عايزة فلوس كتير إحنا مأجرينها من الحى يعنى أنا بقالى 35 سنة فى المهنة دى، ونفس المشكلة هى الإيجار، فقد تراكم علينا بشكل كبير فلا نستطيع دفعه». وعند الحديث عن الحرائق التى شهدتها الورش لأكثر من مرة، قال أحدهم: «إن المشكلة فى أن الورش دى مصنوعة كلها من الخشب، إحنا محتاجين تطوير فى المنطقة، وبنطالب من سنين إنهم يحسنوا وضع هذه الأكشاك، ويبنوها بالطوب بدلا من الخشب». شهدت هذه المنطقة عدداً من الحرائق آخرها منذ شهرين، مما يهدد الحرفة بالزوال، أما عن المشكلة الأخرى التى يعانى منها الحرفيون فيقول عنهاأحدهم: «إحنا ملناش نقابة أو أى جهة تابعين ليها، فلو حصل أى حاجة لواحد مننا مفيش جهة مسؤولة عننا، وده برضه مخلى ناس كتيرة تكره المهنة دى». وأضاف: «حتى أعضاء مجلس الشعب، لا نسمع عنهم إلا فى وقت الانتخابات، فلم يأت أى شخص ليسأل عنا ويقول ما مشاكلكم أو ماذا تحتاجون». تضيف هالة إحدى الزبائن المتواجدة بالقرب من الورشة: «منطقة الورش من المناطق الخطرة فى (الأنفوشى)، حيث أصبحت معروفة بأن بها بلطجية وخارجين على القانون، فالمدمنون يستغلونها فى التعاطى داخل الورش، والعمليات المنافية للآداب، فى ظل انعدام الأمن». تعرضت ورشة عم مسعود لعملية سرقة أكثر من 3 مرات، هو وغيره من أصحاب الورش المجاورة، ويقول مسعود: «المنطقة يستغلها الخارجون على القانون فى ساعات الليل لأعمال منافية للقانون، فورشتى تعرضت للسرقة، ونحن غير مصرح لنا بالتواجد فى الورش إلا من ساعة الشروق إلى الغروب، ولا نستطيع التواجد بها ليلا للدفاع عنها»، وتساءل مسعود عن دور الشرطة فى حماية الورش الخاصة بهم! على الرغم مما يعانيه صنايعية الورش، فإن حبهم للمهنة بكل أنواعها من النجارة والحدادة والكهرباء والسباكة والميكانيكا، وصبرهم على متاعبها، هما ما يدفعهم للاستمرار فيها، وتبقى معاناة أصحاب هذه الحرفة «صناعة المراكب والسفن»، تحتاج لتدخل من الجهات الحكومية وتقدير من المسؤولين لمنحهم أسباب استمرارهم. عم «فرج» أقدم صانع مراكب فى «المنطقة»: قديماً كان الأمراء والملوك العرب يلجأون إلينا يشير أحد الصنايعية إلى عم «فرج»، فهو «معلم منطقة الأنفوشى»، وأقدم صانع سفن بها، وتحكى ملامحه تفاصيل أكثر مما ينطق به من كلمات حول تاريخ مهنة صناعة السفن، التى يتقنها بمهارة لا تتناسب مع سنه التى جاوزت الخمسين عاما، يقفز عم فرج من بين الألواح ليحكى عن قصة عشقه مع «السفن» التى كان البحر شاهدا عليها. «أنا بقالى أكثر من 40 سنة بشتغل مع السفن»، كلمات يبدأ بها عم فرج حديثه ويتابع: «صناعة المراكب واليخوت والسفن موجودة فى منطقة الأنفوشى من أيام الملك فاروق، لكنها بدأت تزدهر فى أوائل الخمسينيات من القرن الماضى، بعد أن تم جمع جميع الصنايعية هنا، فأصبح المكان الوحيد تقريبا على مستوى الجمهورية اللى بيصدر الحرفة للخارج، يعنى هنا الأصل والباقين بياخدوا مننا». وأضاف عم فرج: «طلعت على الدنيا واتعلمت الصنعة دى وعلمتها لأولادى، وهما بيشتغلوا معايا فيها لكن مش بيحبوها»، ويبرر ذلك بقوله: الزمن اختلف، زمان المهنة دى كانت بتكسب فلوس وكانت محترمة، لكن دلوقتى مش جايبة همها، أنا ولادى فى مراحل تعليم مختلفة إلا إنى أصريت أن أعلمهم الصنعة عشان يورثوها لولادهم». يرى عم «فرج» أن العامل فى هذه المهنة بيكون حر نفسه، غير مرتبط بمؤسسة أو قوانين، وبالتالى تنشأ علاقة خاصة بينه وبين المركبة، ويحزن عندما يفارقها، ويقول: «أكثر ما يتم تصنيعه فى الأنفوشى هو المراكب واليخوت، التى تصنع هنا، وتذهب إلى المناطق الساحلية مثل الغردقة، وشرم الشيخ، إلا أن الطلب عليها قلّ مقارنة بالماضى، فالزبون أيام زمان مختلف عن دلوقتى، كان أهم حاجة عنده الشغل والخامة، لكن زبون دلوقتى بيهتم بالفلوس أكتر من أى حاجة»، إلا أنه رغم تراجع صناعة السفن فما زال عم فرج يحبها ويقول: «اتعرض علىّ فرص عمل كتيرة برة مصر فى فرنسا وألمانيا، إلا أننى رفضت عشان ولادى وعشان حبى للحرفة، بالذات إن الإسكندرية المحافظة المصدرة للمهنة». يشير عم فرج بيده للمراكب واليخوت ويقول: «هنا أنواع مختلفة من صناعات السفن، إلا أن من أشهر أنواعها العربى والأفرنجى، ويزداد إقبال الزبون على النوع الأول، فهذا النوع من السفن يكون خفيف الوزن ويعمل بماكينة واحدة». وأضاف عم فرج : «المدة التى تحتاجها السفينة لإنشائها تختلف من واحدة إلى أخرى، وذلك لوجود عدة عوامل: منها حجمها والعدة المستخدمة والايدى العاملة، والإمكانيات المادية، وطول المركب أو اليخت، حيث تبدأ مدة تصنيعها من 6 شهور إلى سنة تقريباً، مشيراً إلى أن اختلاف الزبون فى السابق عن الوقت الحالى لعب دوراً مهماً فى اختفاء المهنة، إذ إن زبون الماضى كان لا يدقق فى الأسعار، بعكس زبون الحاضر». هناك نوعان من المراكب، الخشبية والحديدية، وتشهد الأولى إقبالاً أكثر، ويتابع فرج: «قديماً كان الأمراء والملوك العرب يلجأون إلينا، وكان لا يوجد أى مكان آخر للصنعة، فكانت الحرفة فلوسها ماشية ومسمعة غير دلوقتى». تختلف أحجام المراكب واليخوت والتى يقوم عم فرج بصنعها، فمنها ما يصل إلى 35 متراً، وأخرى 22 متراً، كل مركب به غرف فى الداخل تختلف مساحة الغرفة حسب طول وعرض المركب. ونفى عم فرج وجود أماكن أخرى لصناعة السفن بنفس الجودة مثل منطقة الأنفوشى، قائلاً: «إن التجار يأتون إلينا من أماكن بعيدة لصناعة السفن، حيث لا توجد منافسة لنا، إلا أن المهنة أصبحت مهددة بالانقراض نتيجة غلاء أسعار الأخشاب، حيث توجد هناك سفن تصل تكلفة الخشب بها إلى 24 ألف جنيه، إضافة لمنع أصحاب السفن من منحهم التراخيص اللازمة لنقلها من مكان إلى آخر»، مشيراً إلى أن صاحب السفينة يحتاج إلى تراخيص لنقلها من منطقة الأنفوشى إلى الميناء، ثم إلى نويبع أو شرم الشيخ، والوضع نفسه لسفن الصيد، حيث تم إيقاف التراخيص الخاصة بها أيضاً لعدم وجود أماكن على رصيف الميناء، مما ساعد على إيقاف عجلة العمل». إبراهيم القبطان.. «التراخيص» أجبرته على تصميم مراكب «الديكور» وترك تصنيع السفن السياحية تجاوز من العمر خمسين عاماً، يقف فى ورشة لتصنيع السفن، بمنطقة ورش الأنفوشى، يحمل فى يده «مسمار وشاكوش» ويبدأ فى تصميم سفينته الصغيرة، إنه عم إبراهيم القبطان، من أقدم صناع السفن الذى تحول من تصنيع سفن السياحة والصيد، إلى سفن الزينة والديكور بسبب قيام الجهات المتخصصة بوقف صدور التراخيص اللازمة لعمله. بدأ عم إبراهيم القبطان حديثه قائلاً: «أمتلك ورشة لتصنيع السفن السياحية والصيد منذ 40 عاماً، وأعمل فى هذه المهنة بالوراثة أباً عن جد، وكانت عجلة العمل تسير بشكل جيد، وتأتى إلينا شخصيات عربية لتصنيع السفن لدينا، خصوصاً أننا نمتلك شهرة كبيرة فى مصر ، والدول المجاورة». وتابع: «القرار الصادر منذ عام 2000، بإيقاف التراخيص اللازمة لصناعة السفن، كان سبباً رئيسياً فى تحويل بعض الورش إلى صناعة سفن الديكور، كمحاولة لفتح باب رزق جديد، المهم أن الواحد مش بيخرج من صناعته، اللى عاش عليها». وبرر القبطان لجوء بعض الورش المخصصة لتصنيع السفن إلى صناعة مراكب الديكور بالهروب من «وقف الحال»، خاصة بعد صدور قرار إيقاف التراخيص الخاصة بالمواطنين الراغبين فى نقل السفن السياحية من المحافظة إلى شرم الشيخ والغردقة بحجة عدم وجود أماكن لرسو السفن، ونفس الوضع بالنسبة لسفن الصيد، حيث إن معظمنا يعمل فى هذه المهنة بالوراثة». وأشار «القبطان» إلى أن سفن الديكور يقتصر زبونها على الطبقات الراقية والأجانب، حيث إنها غير مطلوبة فى المحافظة، بل يزداد الطلب عليها فى شرم الشيخ ومارينا والغردقة، إلا أنها تفتقد التسويق والترويج اللازم. ويتحدث القبطان عن كيفية تصنيع مركب الزينة قائلاً: «خشب عادى وقماش وقطعة جلد صغيرة، هى المواد المطلوبة لصناعة سفن الزينة، وتتراوح أحجامها بين 10 سم و80 سم، وتحتاج يومين لتصنيعها، وتبدأ أسعارها من 15 جنيهًا إلى 150 جنيهًا، طبعاً الأسعار تتحدد حسب حجمها والشغل اللى بداخلها».