أتعبنى بكاء تلك القريبة التى ألقاها بعد سنوات فراق، كان نشيجها كأنّه رمح يخترق ضلوع المكابرة، ولو لم أكن أقسمت ألاّ أبكى لكنت تلقفت دموعها ببحر دموعى الخرساء، ولو لم أكن عاهدت نفسىّ ألا أضعف، لكنت فتحت مندبة حزن.. هذا دون أن أدرى سببا لعويلها، الذى يستفز مشاعر الإنسانية. تُرى! هل جاءها نعىّ قريب أو حبيب؟ هل هى تلك القنوات المفتوحة على طقوس دماء ولطم وتقطيع جلود بسلاسل تحدٍ وشرك؟ وما إن خرجت عن دهشتى وسألتها عن الخطب حتى انفلت زمام غضبها وعتبها وضعفها وشكواها لتهز أصداء وجعها أرجاء الغربة حين صاحت (اشتقت إلى الوطن، إلى بغداد وكربلاء والنجف، وأمى وهى تخبأنى طفلة بين عباءتها، لكى تجنبّنى رؤية الدماء حين كانت تزور أصدقاء لها فى مثل هذه الأيام، اشتقت إلى النخاع.. فمتى تزول سحابة الباطل السوداء ويرفرف الأمان؟ متى وبمن أستغيث فقد أتعبتنى الغربة والذكريات؟ ناديت (واعليّاه) (واعمراه) (واحسيناه) (وامعتصماه) (واعروبتاه) ولا من مجيب، فهل تجيبيننى أيتها الحالمة، الصامتة كالموت إن كنت تعرفين ثمة مخرج من هذا الكابوس؟) وما إن هدأت حتى خرجت باحثة عن نسمة بين الرذاذ الثلجى تطهّر تلك الحسرات المكتومة فى الوجدان على وطن تملّك عصمته الأغراب بعقود متعة غير محددة، على مرأى من يدّعون بنوّته وإخوّته، وطن قُطِعت عروق حضارته لتنسكب دماؤها فى أنخاب محتل غربى وغازٍ شرقىّ.. وطن مازال فى مخطوطة «بروتوكولات» احتلاله الكثير، وكان أحد أخبار جديدها المتواتر منذ أيام هو رفع تماثيل أكاديمية الفنون، وإغلاق المنتديات الأدبية والنوادى الترفيهية، ومنع المهرجانات الفنية وعروض السيرك وتدريس مادتى الرسم والموسيقى، وما فى ذلك المنع من قتل للإبداع والفكر.. لتستعر الأحداث داخلياً، ولايستطيع إخمادها ثلج أو مطر. ويأس استغاثات قريبتى وجهلها يموج فى رأسى ويدهشنى! ألا تدرى أن «عليا» قتله ابن ملجم ربيبه الفارسىّ! وعمر طعنه «أبولؤلؤة المجوسى» !والحسين وأبناء رسول الله تكالبت عليهم سيوف الغدر تجتث رؤوسهم فى مجزرة بكت لها السماوات والأرض! والمعتصم قُتل يوم أن استغاثته (أطوار بهجت) شهيدة سامراء! والعروبة خانعة بين تسلط وقهر وغلاء وجفاف أرض ومشاعر، والهموم تشابكت والكرامة انصهرت فى بوتقة خوف واحدة! ولم يسلم حتى النبات فهذه أشجار النخيل والرمان المتخايلة شموخا وخصبا أراها فى (ديالى- العراق) بالأمس منكسرة تتساقط أغصانها عطشاً والجارة إيران تبخل عليها بقطرة ماء، ولا شىء غير الصبر والاستغاثة بالله والاستعانة به وبإرادة لا تعرف الخوف ستنطلق من غضبة شعب أدمن انتفاضات الموت والشهادة والانفجارات والخطف. والدليل مظاهرات الكهرباء فى البصرة وتظاهرات النساء بالأمس، واعتصام الفنانين والأدباء والمثقفين وصيحات التنديد، والرفض العلنى لما يصدر من قرارات يتسيدها التخلف والتحدى السافر لعجلة التقدم. وما تغرق به البلاد من فساد سياسى واجتماعى وتدهور اقتصادى وتناحر طائفىّ وتزييف وتزوير وفوضى أمنية. وغدا ستنكشف الغمّة بقوة الله وإرادة الشعب فكم طال العراق من بلاء وابتلاء على يد مغول وتتار وصفويين وبرامكة وعثمانيين وإنجليز، وكان لكل منهم صولة ودورة وما إن يصل نجم أحدهم أقصاه حتى يتفجر فتتناثر شظاياه الفاسدة. فوق فلولهم الفارّة من غضبة شعب لاتبقى ولا تذر. غدا تدور على الباغى الدوائر ف(ماطار طير وارتفع إلا كما طار وقع) فلتكن استغاثتنا (واربّاه) (واإرادتاه) فهى الزلزال الذى يهزّ المظللين والحاقدين من ذوى الوجوه المزدوجة والعمالة المعلنة.. غدا ستعود قريبتى وتعود إشراقة الشمس بعد ليل طويل ووجع مرير، (فغدا يوم آخر.. بإذن الله)