في إطار سعي كل الفنون إلي أن تصبح موسيقية – وفق تعبير الفيلسوف الألماني "شوبنهاور" تتجدد الرؤى والأساليب وتتحول لغة الفن إلى أعلى مستويات التسامي عبر أثير التكثيف على أجنحة إشعاعات الطيف متزاوجة مع فنون الصورة لتحقق المعادل المرئي لفكرة ما تعبر ببلاغة سمت لتحلق في سماوات ارستقراطية المغزى متشامخة في بساطتها ، متناغمة في أساس بنيتها ، عميقة في تلقيها متساوقة مع واقع الإنسان المعاصر ، كونية الهوية ، يجد فيها كل مشاهد لها في أي مكان في العالم نفسه ، في أحوال معاناته وأحوال حركاته وسكناته ، أحزانه وابتساماته، يرى نفسه ببصيرته و ليس ببصره ، فهو يجرب بصيرته على صور يجربها فنان مسرحي ، فكلا الطرفين في عملية الاتصال المسرحي – هنا – مجرب ؛ فنان المسرح يبدع لغة لم تعرف من قبل ، حتى هو نفسه لم يكن يعرفها قبل أن يجسدها في عمله المسرحي ، وجمهور المسرح يبدع في قراءة لغة لم يسبق له تعلمها ، و كأن(الموسا) - آلهة الفن عند اليونان- قد هبطت على فنان التجريب بلوح المسرح المحفوظ في عالم الميتافيزيقا لتقول له (اقرأ) فيردد متلعثما: ( كلا ما أنا بقارئ) فتطلب من ذلك المشاهد الذي يقف إلى جواري مثل ظلي؛ أن يقرأ لوحك المسرحي المحفوظ فإذا بالمشاهد المتطفل يفك خط اللوح المسرحي المحفوظ بعين ذهنه المتأمل وهنا تصفق (آلهة الفن والموسيقى اليونانية) (أحسنت يا أيها المشاهد المتطفل على رؤية جنين الغد في بطن المستقبل.أحسنتما كلاكما) ذلك ما رأيته في منامي بعد مشاهدتي للعرض المسرحي التجريبي الفرنسي (جزء بالداخل) ؛ ربما لأنني بت استعرض صورة العرض وأعيد قراءة علاماته ،لأن العروض التجريبية التي توظف اللغات غير الكلامية لا يجيدها من لن يتمكن من القراءة (السيميولوجية) لأنها تكتب بلغة الجسد ولغة (السينوجرافيا) لغة المعادل التشكيلي المرئي للمضمون. القراءة الجمالية لسيميولوجيا العرض المسرحي(جزء بالداخل) من المفاهيم المستقرة في محيط الفكر؛ أن العلم يصحح المعرفة ؛ و يبحث عن حقيقة ما هو كائن. والفن يبحث عما ينبغي أن يكون والثقافة هي واقع حياة الشعوب ووعائها . إن العرض المسرحي الفرنسي الذي كان باكورة عروض المهرجان التجريبي المسرحي هذا العام كان بحق بحثا إبداعيا كما ينبغي أن يكون عليه الإبداع المسرحي ،حيث يمتنع على من يجيد قراءة العرض المسرحي التقليدي ويكشف عن شفراته لكل من قال لنفسه(ما أنا بقارئ) !!متعللا بأنه يجيد التشوف ،ولا يقرأ إلا بلغة الإحالات المعرفية لجديد الثقافات العالمية ،ولا يقرأ إلا باللغة الكونية وهي لغة الصورة.تعلم أن المسرح داخل المسرح ،منذ شكسبير- وقد وظف عرض الليلة الأولى لمهرجان القاهرة الدولي السادس عشر للمسرح التجريبي تقنية السينما داخل المسرح ، وسيطا تعبيريا عن دراميات المسكوت عنه في ثقافة السلوك الإنساني المعاصر بعد(الحادي عشر من سبتمبر) ، حيث العجز أو الإحجام عن المواجهة- مواجهة القادم والقاتم في المشهد العالمي المعاصر- لقد تأسس ذلك العرض على الأداء عبر تجسيد حاضر للممثل في تكوين يعطي للجمهور ظهره في غالبية ظهوره في المشهد المسرحي غير الكلامي و يتوازى مع تكوينه الخلفي صورة ذلك الممثل نفسه على مساحة العرض السينمائي ، تتشكل من عدد من المكعبات البيضاء المتراصة رأسيا في غير نظام بنائي مماثل في جوانبه وفي أعلاه لنشاهد تعبيرات وجهه ودراميات حركة أطرافه ولإيماءاته بحيث تتزاوج الصورة المسرحية بين التجسيد الحاضر لخلفية الممثل وصورته الفوتوسينيمائية في مواجهة مع قاعة العرض ليرى المتفرجون تعبيرات وجهه وإشاراته وتلميحاته عبر الوسيط السينمائي تعويضا عن غياب المواجهة الحية لمجتمع قاعة العرض ، الذي هو الآن - في أثناء مشاهدته للعرض - يشكل رمزا للعالم الخارجي الذي يعطي الممثل والممثلة بوصفهما تعبيرا عن إنسان العصر بعد كارثة(برجي التجارة العالمية)في عجزه عن مواجهة ظلام المحيط الخارجي إذ استعاض عن المواجهة المباشرة ، بوسيط(الميديا) ، فهي الأقدر على كشف دقائق ما يشعر به ، وتلك دلالة عنوان العرض المسرحي نفسه(جزء من الداخل). تلك هي إذن المقولة الأساسية لذلك العرض التجريبي. غير أن عروض المسرح التجريبي ، لا تقرأ إلا كما يقرأ معرض للفنان التشكيلي فمعرض فن التصوير يقرأ لوحاته أو محتوياته وتماثيله صاحب الذائقة الفنية بعيون حسه القراءة الجمالية أولا، ثم يقرؤها مرة ثانية فيعيد إنتاج الدلالة بشكل مغاير ، وهو يقرأ كل لوحة ، أو كل تمثال قراءة منفصلة عن غيرها من الصور التي يضمها المعرض ، وقد يجد في أثناء قراءته الثالثة للصور أو الأعمال الفنية المعروضة التي يعيد فيها إنتاج دلالة مغايرة للوحة بعيون التأمل ، قد يجد خيطا فكريا أو تكوينا خفيا يربط بين لوحة و لوحة ، أو أكثر ، غير أنه لا يضع نصب عينه خلال مشاهداته لمحتويات المعرض الفني فكرة أو موضوعا لأي لوحة أو تمثال منها. وعروض المسرح التجريبي ، التي رفدت فكرنا المسرحي منذ ست عشرة سنة لم تجد بعد المشاهد التجريبي، الذي يغامر في محاولة تجريب حسه على القراءة التجريبية ، قراءة العرض صورة صورة، تماما كما يقرأ جمهور معرض التصوير أو المنحوتات كل عمل على حدة - قراءة تأمل منفصلة - ذلك أن العرض المسرحي التجريبي-في غالبية ما عرض عبر دورات المهرجان المتتالية - لا تتأسس على مقولة درامية واحدة ، بل تتأسس على عدد من المقولات الدرامية وربما غير الدرامية مثلما شاهدنا في عرض(دونج) الذي لم يتضمن غير عدد من صور السلوك الكوني للأحياء (البشر والأسماك والطيور والحيوانات) في عاداتها في سيادة كبيرها على صغيرها وعرض(جزء بالداخل) تأسس على أكثر من مقولة درامية تتمثل في تفاهة سيل الكلام الإنساني ، وعجز اللغة عن القيام بوظيفتها في التعبير عما يعانيه ، فالكلام كالقيء يخرج من جوف الإنسان ليرتاح الإنسان بعده ، وكأن الإنسانية قد أصيبت بالغثيان وما ذلك الغثيان سوى الكلام..الكلام.وقد جسد العرض ذلك المغزى أو تلك الدلالة تجسيدا حركيا و سينمائيا وفق تقنية التزاوج الزمني لممثلة تتدلى بنصفها الأعلى من فتحة بين المكعبات المنبعجة (شاشة العرض السينمائي) فلا يظهر منها سوى قفاها وشعرها(المقلوب)في انسداله نحو الأرض ويدها وفي نفس الوقت تسقط الحروف اللاتينية من فمها(سينمائيا)في توافق تقني شديد الدقة بين فمها البشري الحقيقي والحروف المصورة في الفيلم السينمائي متزامنة مع تمتماتها الصوتية تتساقط من فمها لتشكل هرما من الحروف ، قاعدته في أرضية الفضاء المسرحي أسفل أمام المكعبات البيضاء(الحاجز أو الحائل) وهو أيضا رمز للمانع الذي يبدو محايد أو العائق السلبي لإنسان العصر الذي يحول بينه وبين مواجهة الواقع المعيش للمحيط العالمي. غير أن هذا الغناء الذي تقيأته حياتنا المعاصرة. بافتراض أن الممثلة ( المرأة) رمز للحياة المعاصرة ، ما يلبث أن يصعد سينمائيا مع تمتماتها المتزامن (بالصورة السينمائية) ليدخل في جوف المرأة / الممثلة . وتلك دلالة على أن الإنسان يجتر الكلام غثاء عبر تاريخه الطويل و هنا يمكن للمشاهد التجريبي – الذي لا يقرأ كما يقرأ الناس يمكنه الربط بين دلالة الصورة الأولى في تلك اللقطات والتكوين الأول ودلالة الصورة الثانية في التكوين الحي مع اللقطات السينمائية التي هي في الحقيقة ترجمة تفسيرية أو كتابة بالصورة معادلة لما كتبه الممثل أو الممثل بلغة الجسد وهذا قريب من حيث البعد الجمالي لتقنية التظليل في فن التصوير فإذا ربط المشاهد التجريبي بين دلالة التعبير في كلا اللوحتين أو التكوينين ، سوف يخرج بدلالة موحدة أو بقراءة واحدة للفكرتين الدراميتين ليجدهما يشتركان في الناتج دلالة جديدة اشمل و هي أن الإنسان المعاصر غير قادر على المواجهة أو هو غير راغب في مواجهة واقع ثقافة عصره لآن لغة اتصاله مع ذلك الواقع العالمي المعاصر مجرد غثاء ظل ويتقيأه بشكل متواصل إلى وسيط اتصالي (الميديا) يمكنه من أن يولى ظهره لذلك الواقع الثقافي المرير . كذلك يمكن لذلك المشاهد التجريبي الذي يقرأ في العرض المسرحي التجريبي حالات التوالد المعنوي لدلالات التعبير المسرحي بلغات متعددة و غير معدودة ، يمكنه أن يقرأ المعنى نفسه الذي توصل إليه عبر قراءاته للتكوينين السابقين عندما يشاهد ممثلة مقرفصة خلف (الحاجز/ الشاشة / المكعبات) الذي هو علامة أيقونة عندما لا يستخدم كشاشة للصورة السينمائية و هو علامة ميتاتياترية (شارحة أو مفسرة) عندما تسقط عليه الصور السينمائية متزامنة مع التجسيد الحي للممثلة التي يظهر تعبيرها الوجاهى عبر الصورة السينمائية في حين لا يظهر منها سوى جزء جانبي من جسدها و هي جالسة في (وصلة غسيل) خلف الحاجز. وهكذا تتابع صور العرض أو لوحاته لتشخيص محاولات الإنسان في ثقب ثغرة في ذلك الحاجز (المكعبات) الذي تحال هنا إلى علامة رمزية ليتمكن من إخراج يده مجرد يده دلالة على نضاله المتواصل في تأكيد قدرته على كسر الحاجز الذي هو بمثابة قدره الذي يحول بينه و بين الاتصال الفعال مع العالم الخارجي . فاللغة حاجز معنوي تتضافر مع الحاجز المادي في إفشال عمليه اتصاله المباشرة وجها لوجه مع العالم الخارجي و قد جسد مصمم المعادل التشكيلي للفكرة (المصمم) ذلك يمل إطار (أحد المكعبات/ الجدار) بالطين الصلصال مما مكن الممثل من استخدام سكين ليفتح ثغرات في ذلك الجدار السميك للعازل للاتصال المباشر و الفعال بين الإنسان و العالم الخارجي ليتمكن من صنع أربعة ثقوب في ذلك المكعب في اتجاهاته أو جوانبه الأربعة لتعيد الممثلة جمع ما فرغته من الصلصال و ضربه ضربات متتالية بأنبوبه معدنية لتندمج في كتلة واحدة تعيد ضمها من جديد إلى المكعب الذي نزعت منه ، مع تكرار فتح ثغرات في المكعب الصلصالي (الحاجز) وإعادة ترميمها . بما يفيد تكرار صنع الثغرات في الحاجز للدلالة على أنه حواجز متعددة ومتنوعة وأن دأب الإنسان على صنع ثغرات في تلك الحواجز (القوانين الأزلية والوضعية) بما يعكس دأب الإنسان على خرق القوانين أيا ما كان مصدرها ومع تكرار اقتطاع الممثلة لقطع من الصلصال المكون للمكعب ، تعيد تشكيل ما تقتطعه من صلصال في نماذج لتماثيل بشرية صغيرة تربو على الخمسين تمثالا تصفها على الأرض في طابور من التماثيل كما لو كانت تشكل من مادة ذلك الحاجز (النظام التسلطي) جنودا لخدمة ذلك النظام أو الحائط السلطوي و كأن المخرج يريد أن يقول إن كل نظام حاكم هو سد منيع يحول دون المواطن وحرية التعبير المنطلق بالقول والفعل وهذا السد / النظام يخلق من طينته بنفسها جندا (أصناما) يقفون صفا أو حائطا بشريا صنمي أم متصنما مرادفا للحائط أو النظام . كما يمكن القول إن الإنسان نفسه هو الذي يصنع لنفسه حاجزا مانعا له من التعبير المحرر كما أنه يصنع بنفسه من طينة ذلك الحاجز جندا أصناما أو عسكر متصنمين يشكلون حائطا شبه بشرى زيادة في خلق الحواجز و الموانع أمام حريته في التعبير. وتشكل الصوتيات الغنائية الاوبرالية المنفردة الأداء (صولو) مع إذاعة أخبار بالفرنسية عبر المذياع وفي نبرات غير مميزة يشكل هذه الاداءات الصوتية (الكونتربوينتية) ذات الخطوط المتضادة في وحدة دلالة ابتهاج بذلك الانجاز التسلطي الذي تضعه الممثلة وهنا رمز للدولة المتسلطة أو الشمولية التي تقيم الموانع والحوائط المادية والبشرية ضد حرية التعبير . وربما يمكن تفسير ذلك بما يحدث في أمريكا اليوم بعد الحادي عشر من سبتمبر . إن مثل تلك القراءات التجريبية للعرض التجريبي الذي لا يمنح دلالاته لكل قارئ على الطريقة المصرية لذلك لا أندهش كثيرا عندما يتردد كلمات الكثير من أساتذتنا المسرحيين الرواد التي تعلن (بالصوت الحيانى) عن (هيافة) عرض الليلة الأولى للمهرجان السادس عشر . و هنا و عن طريق الإحالة إلى الذاكرة التخيلية تتجسد أمامي صورة عبد السلام النابلسي في ملابس (حسب الله السادس عشر) في فيلم (شارع الحب) فلا موسيقى عنده سوى موسيقى حسب الله.