خالتى فرنسا غضبانة.. لماذا؟ لأن الرئيس، وحكومته، ولديهم أغلبية 52٪ بالمجالس النيابية مصممون على إصلاح نظام التقاعد برفع سن المعاش من 60 إلى 62 سنة!! ولماذا هذا التعديل؟ لأن صندوق المعاشات عام 2030 سيعجز عن سداد المعاشات، نظراً لارتفاع متوسط عمر الإنسان هناك (82 سنة للسيدات، 80 للرجال)، وبالتالى سيزداد عدد أصحاب المعاشات، ونظراً لقلة الإنجاب سيقل عدد الشباب فى سن العمل، وهم الذين سيسددون الاشتراكات، ووقتها ستحدث المشكلة!! ونظراً لأن الرئيس وشركاءه فى الحكم مسؤولون أخلاقياً عن مستقبل الأجيال القادمة، ولديهم البيانات والمعلومات فقد فضلوا «الوقاية» لحماية الأجيال القادمة، حتى لو خسروا كراسيهم بالمواجهة مع الشارع!! أعلى معاش يتقاضاه موظف حكومى فى فرنسا هو للرئيس «جاك شيراك»، نظراً لأنه يحصل على عدة معاشات لكل وظيفة منذ تخرجه عام 1958 عندما بدأ مدير إدارة بمكتب مدير عام الزراعة بالجزائر أثناء الاحتلال، ثم أستاذاً بالمدرسة العليا، ثم مديراً عاماً لمشروعات التعمير، ثم عضوا بمجلس الأمة، ثم وزيرا للعمل، ووزيرا للاقتصاد، فوزيرا للزراعة، فوزيرا للداخلية ثم رئيساً للحكومة، وأثناء ذلك «عمدة» للعاصمة باريس، ثم رئيساً للجمهورية عام 95، لدورتين اثنتين فقط كما جرى العرف (رغم أن الدستور لا يمنع من التكرار)!! ولهذا يتقاضى شيراك (5000 يورو معاش الرئيس + 5000 كنائب بمجلس الأمة + 8500 كعمدة وقاض وقاض بالجهاز المركزى للمحاسبات + 12 ألف يورو كعضو بالمجلس الدستورى الأعلى، بمجموع شهرى 30000 يورو)!! بالمناسبة: معاش «الطبيب» عند الستين 3000 يورو فى المتوسط، وأقل معاش لأى إنسان هناك هو 1200 يورو (كيلو الفاكهة ب 3 يورو - كيلو اللحمة يبدأ من 15 يورو - والصحة والتعليم كالماء والهواء النظيف مجاناً)!! الخلاصة.. أن الشعوب «الحيّة» و«العفيّة» ناضلت، وكافحت، ودفعت أثماناً باهظة لتصل إلى ما هى فيه من «حقوق» كاملة وغير منقوصة، ولكن فى نفس الوقت المواطن فيها يلتزم ب«واجباته» من نفسه، فلديه العمل عبادة، والتجويد شرف لا يدّعيه، وسداد الضرائب على داير المليم وإلا فالسجن وراء القضبان مهما كانت حيثيته.. وصوته الانتخابى أمانة «بجد».. ولهذا تجد المواطن هناك أقوى من رئيس الجمهورية، الصحفى يجلس فى مواجهة الرئيس واضعاً ساقاً فوق الأخرى.. فالرئيس هناك موظف لدى الشعب لمدة محددة، وبأجر معقول.. والدليل فى آخر افتتاح للمعرض الزراعى السنوى، عندما اعتدى «فلاح» على الرئيس بالقول والشتيمة أمام كل المرافقين والحراس.. وبادله الرئيس شتيمة بشتيمة على الهواء، وأمام الكاميرات.. فماذا حدث؟ خرج الرئيس ساركوزى فى اليوم التالى وعلى شاشات التليفزيون «يعتذر» للفلاح والشعب، متأسفاً، لأنه كان لزاماً عليه ألا يرد وأن يسمع شتيمته ويصمت، وإلا اعتبره الشعب رئيساً انفعالياً- عصبياً، ولا يصلح لأن يتحكم فى الشفرة النووية (أينما ذهب الرئيس فهو معه شنطة صغيرة الحجم بها شفرة، هو الوحيد الذى يعرفها، ليستخدمها فى إعطاء الأوامر للجيش فى حالة تعرض فرنسا لهجوم نووى)!! ونعود إلى المظاهرات، و«الإضراب عن العمل»، المسمى بالفرنسية GREVE، والتى أخذها الناس من ميدان بباريس اسمه place de GREVE، بدأت فيه أول مظاهرة للإضراب عن العمل عام 1864 عندما أضرب العمال مطالبين بتخفيض ساعات العمل إلى 8 ساعات يومياً بدلاً من 12 ساعة، ولم ينص على «حق الإضراب» بالدستور سوى عام 1946، و«الإضراب عن العمل» يكلف خزانة الدولة فى اليوم الواحد 400 مليون يورو، أى فى الأيام العشرة الماضية تكلفت الخزانة هناك 4 مليارات يورو = 32 مليار جنيه، أى ما يعادل ميزانية 10 وزارات فى مصر فى السنة. (ميزانية وزارة الزراعة والبحوث الزراعية فى السنة كلها 300 مليون جنيه، أى ما يعادل 40 دقيقة إضراب فى فرنسا)!! وأشهر الإضرابات فى فرنسا هو إضراب الطلاب عام 1968: عندما بدأت أول شرارة من طلاب «جامعة نانتير» بالضاحية الغربية، بعد أن قتلت الشرطة أحد الطلاب أثناء المصادمات، ثم انتقلت المظاهرات إلى «السوربون»، ليخرج 800 ألف طالب إلى الشوارع، وتنضم إليهم نقابات العمال والفلاحين، رافعين شعارات وهتافات بسقوط الحكومة وبالزعيم الروحى الجنرال «ديجول» الذى كانوا يتغنون باسمه عندما كان يقود الشعب والجيش حتى نجح فى تحرير فرنسا من الاحتلال النازى.. ولم يشفع للزعيم أنه الرجل الذى أفنى حياته، وعاش كل دقيقة من عمره فى تقشف وصرامة وجدية، فبمجرد أن مات أربعة مواطنين فى المظاهرات والمواجهة مع البوليس غضب الناس غضباً شديداً، اضطر الزعيم لأن يعلن عن حزمة إصلاحات فى استفتاء عام، مهدداً الشعب بتقديم استقالته إذا لم يمنحوه أغلبية الأصوات لهذه الإصلاحات، ورغم أن فترة رئاسته كانت صالحة لعامين.. فمجرد أن قال الشعب كلمته «لا للإصلاحات».. تقدم الزعيم باستقالته فى نفس الليلة، وغادر الإليزيه إلى قريته بجنوب البلاد ليموت بعدها بشهور، ويُدفن وسط عائلته فى هدوء!! وهكذا يحاسبون أى مسؤول.. وأعتقد أنهم سيعاقبون ساركوزى وحزبه بإسقاطهم فى الانتخابات القادمة.. ورأيى أنه لن يرشح نفسه ثانية.. فهو سيتذكر مقولة الزعيم ديجول: كيف أُرضى شعباً يتذوق 365 صنفاً من الأجبان: جبناً بالمكسرات.. وجبناً بالبهارات، وجبن ماعز، وحتى «الجبن بالأعفان»!! ولكن هناك فارقاً ضخماً بين «أعفان» لها مذاق.. و«أعفان» لا تطاق!! تحية واجبة: لكل من النائبين المحترمين، الطيار حمدى الطحان، والمحامى علاء عبدالمنعم، اللذين نأيا بنفسيهما عن الغوغائية والمهاترات وشبهة الصفقات.. والخاسر ليس فقط مواطنى دائرتيهما، ولكن كل مواطنى المحروسة!! [email protected]