فى الستينيات لم تكن مصر تعرف كلمة «تصدير»، ولكن كانت هناك صفقات متكافئة بين الدولة وبعض دول المعسكر الشرقى، خاصة الاتحاد السوفيتى.. فكنا نرسل إليهم مركب «بصل» أو «برتقال»، مقابل بعض الأسلحة «الكلاشينكوف».. وهكذا!! وبعد «الانفتاح» منتصف السبعينيات والثمانينيات دخل بعض المغامرين ليجربوا أنفسهم فى الأسواق العالمية، ولجهلهم بطبيعة هذه الأسواق، ولانعدام الخبرة، كانت «فضيحة بجلاجل».. كنت «شاهداً شاف كل حاجة»، لتواجدى داخل سوق Rungis بباريس، وهى ثانى أكبر أسواق المواد الغذائية فى العالم.. وكنت وقتها (1978) أستورد «الجريب فروت» من ولاية فلوريدا لأبيعه فى فرنسا وإنجلترا.. وبالمصادفة وصلت من مصر شحنة «بطيخ شليان»، وكانت الثمار معبأة فى أقفاص من الجريد، ومحشوة بقش الرز لحمايتها من التكسير.. وبمجرد نزول الشحنة على أرض السوق.. ومع فتح أول قفص.. خرجت عشرات الفئران ترتع فى كل اتجاه.. والمستورد الأجنبى يصرخ هلعاً.. وتجار الجملة اليهود «بيتريقوا» علينا على أحجام الفئران المتوحشة.. وأنا «المصرى» أطأطئ رأسى، ويحمر وجهى خجلاً، وأهرب من المواجهة!! مثال ثان: كانت «الفاصوليا الخضراء» تأتى من «بوركينا فاسو» ومن «السنغال» مرصوصة فى كراتين صغيرة مكتوب عليها كل البيانات بالفرنسية، ومعها «ورقة» توضح طرق الطهى.. وبجوارها شحنة فاصوليا مصرية، معبأة فى كراتين كبيرة كانت معدة لتصدير برتقال، وبالتالى مطبوع عليها صورة برتقالة.. والأدهى: «أن كل البيانات مكتوبة بالعربية، وبالبنط الأحمر العريض: الحاج حسن سلطح.. صاحب شركة «زيزى».. وكلمة ZIZI هى الوحيدة المكتوبة باللغات.. وهذا الجاهل لا يعرف أن كلمة ZIZI معناها بالفرنسية «العضو الذكرى للرجل»!!!.. وعشرات الأمثلة الفاضحة التى لا يتسع لها المكان»!! وقتها كتبت فى صفحة الرأى ب«الأهرام» 13 مقالاً متتالياً تحت عنوان «التصدير هو الحل».. وفى مقابلة مع وزير الخارجية عمرو موسى، وأمام مدير مكتبه والحاضرين طلب منى الاستمرار فى «النقد» لكشف هذه الفضائح حتى تتحرك أجهزة الرقابة على الصادرات.. التى كانت تجهل حتى البيانات التى تشترطها الأسواق العالمية، والتى تلزم أى مصدر بكتابة اسم الصنف ب«اللاتينية» وليس الإنجليزية أو الفرنسية.. وفى زياراتى لمصر كنت أتوجه فجراً إلى صالات المطار بقرية البضائع لأحفر للموظفين على «التختة» وبسن برجل اسم كل صنف باللاتينية حتى لا ينسوا، ورغم ذلك كانت شهادات المنشأ تصل إلى مطار أورلى بها أخطاء، وأحياناً ينسون مرة أخرى ويكتبون اسم الصنف من دماغهم.. فكانوا يكتبون اسم الجوافة هكذا jawafa.. «وكأنك يا أبوزيد ما غزيت»!! وفى بداية التسعينيات «دخلت» الأسواق الأوروبية شركة مصرية اكتسحت المنافسة، وتفوقت حتى على السلع الإسرائيلية، اسمها «Pico». وكانت فخراً لكل مصرى فى أوروبا.. ثم لحقت بها بعض الشركات الأخرى.. حتى أصبح هناك أكثر من عشرين شركة مصرية تفوقت فى المنافسة، وأفسحت لها مكاناً بهذه الأسواق، بعد فهمها أهمية المواصفات القياسية، واحترام الشروط البيئية والصحية.. واستمر الحال، هكذا إلى أن قررت وزارة الزراعة عام 94 وبفضل المعونة الأمريكية أن تؤسس جمعية أهلية للمصدرين «Heia»، وكان للدكتور الراحل محمد البلتاجى فضل كبير مع عدد من المنتجين المصدرين الذين قاموا بزيارات للأسواق الخارجية (استقبلتهم مرات عديدة فى باريس.. شارحاً وموضحاً ومساعداً).. وإلى مناطق الإنتاج المتقدمة فى أمريكا اللاتينية وحتى جنوب أفريقيا، وبدأ المئات من المزارعين المصريين يتفهمون أهمية الاستعانة بالخبراء الأجانب، وبالتسلح بالعلوم الحديثة.. فبعد أن كنا نصدر عام 2003 بما يعادل 230 مليون دولار سنوياً حدثت طفرة هائلة، وصدّرت مصر عام 2009 بمبلغ 1580 مليون دولار أى ما يقرب من سبعة أضعاف فى خمس سنوات.. فماذا حدث؟ أولاً: سياسة د. يوسف والى فى تشجيع الناس على غزو الصحراء فى الثمانينيات والتسعينيات جعلت هناك قاعدة إنتاج كان لا يمكن تحقيق أى نجاح بدونها.. وإذا كان قد باع الفدان للبعض بخمسين جنيهاً وقتها لجذبهم فها هى النتيجة الآن التى جعلتنا نكتفى ذاتياً من الخضر والفاكهة ونصدر بمليار ونصف المليار (أنا شخصياً اشتريت الأرض التى أزرعها بالمزاد من «المجتمعات العمرانية» ب16 ألف جنيه للفدان عام 97 عندما كانت وزارة الزراعة تبيع بمائتى جنيه.. ولم أحصل على قيراط من يوسف والى)!! ثانياً: وزير الطيران أحمد شفيق، الذى كان يجتمع دورياً بالمصدرين، ويحقق لهم أى مطالب فى عمليات الشحن الجوى، ويواجه أى مشكلة فى الإجراءات أو التكلفة أو الطيران الشارتر للتسهيل عليهم. ثالثاً: الوزير رشيد محمد رشيد الذى يستحق أن «نرفع له القبعة».. بعد أن وقف بكل قوة يُحرّك مكاتبنا التجارية بالعواصم العالمية التى كانت نائمة فى العسل.. وهو الذى أقنع رئيس الحكومة والقيادة السياسية بحتمية دعم ومساندة الصادرات بأربعة مليارات جنيه.. لأنه يعرف أن كل جنيه دعم يعود على الاقتصاد بدولارين.. وأن تصدير طن فاصوليا مثلاً يخلق 60 فرصة عمل، وتصدير طن فراولة يخلق 25 فرصة، والفدان ينتج 20 طناً!! (بالمناسبة لم أحصل على «تعريفة» من دعم الصادرات، وبالتالى لا مجال للتأويل)!! وفى غمرة الفرحة بالنجاح.. علينا ألا نتجاهل أنه ستحدث «رِدَّة» فى التصدير سنرى نتائجها خلال السنوات المقبلة، ولهذا لزم التحذير من خطورتها.. وتتلخص فى: 1 الإجراءات المعقدة، والمانعة، لتملك الأراضى الصحراوية، بسبب تضارب القوانين وعدم اتخاذ أى قرار بشأن تملك الجادين.. علماً بأن منتجى البطاطس مثلاً يحتاجون باستمرار إلى أرض بكر خالية من العفن البنى.. ومنتجى الفاكهة فى حاجة إلى مساحات واسعة إذا كنا ننوى مضاعفة الصادرات. 2 استبعاد الشركات الحديثة التى دخلت عالم التصدير من الدعم.. فالدعم أصبح فقط للشركات التى لها خبرة 3 سنوات.. بحجة أنهم لا يفهمون ويمكنهم الإساءة إلى سمعة المنتج المصرى.. وهنا يجب تفعيل دور الرقابة على الصادرات لتمنع أى سلعة غير مطابقة.. أياً كانت الشركة المصدّرة قديمة أم حديثة، حتى لا يحتكر الكبار ويلتهموا كل الأربعة مليارات وحدهم، ونقضى على الصغار الواجب تشجيعهم!! ولضيق المساحة نقول: إنها ليست كيميا، ولا فيمتوثانية، ولا نحتاج إلى نانو تكنولوجى.. ولكن نحتاج إلى وزراء فاهمين ومسؤولين، وقلبهم على البلد، ولا يستندون فقط إلى علاقتهم ب«جمال مبارك» رغم فشلهم الذريع.. والكل يعرف ويعترف بما أكتبه من حقائق تخدم مصلحة ومستقبل بلدنا، ومن لديه عكس ما أقول فليتفضل بالرد!! وللعلم والإحاطة: إن «المغرب» تصدر فقط «سرديناً وأسماكاً معلبة» ب3 مليارات دولار سنويا أى ضعف كل صادراتنا الزراعية.. و«الأردن» التى تشترى المياه بالجالون صدرت منتجات زراعية العام الماضى بمليار ومائة مليون مما يعنى أننا يمكن أن نصدر «مواد غذائية» بعشرة وعشرين مليار دولار تضخ فى شرايين اقتصادنا التعبان «ولدى التفاصيل والتصور لمن يرغب من أسيادنا القراصنة خاطفى سفينة الوطن»!! ونستكمل [email protected]