لم نشأ أن نعكر ورد الإخوان فى شهر الأحزان، فى فبراير من كل عام تحل ذكرى تصفية مرشدهم حسن البنا جسدياً، هذا العام حلت للمرة الستين، شاهدة تحولا يمكن للمتابع لأدبيات جماعة الإخوان اليوم أن يلمسه، فثمة حديث لا ينقطع عن ذكرى (الإمام الشهيد)، وثمة محاولة واضحة للعيان من قبل الإخوان لتأكيد أن البنا لم يقتل وإنما استشهد. ثمة فارق ضخم بين اللفظين، وبين الدلالتين، وفارق أضخم بين آراء الإخوان وآراء المؤرخين والمثقفين واستدلالات العقل المصرى اليوم تجاه واقعة الاغتيال، ومن وراء كل ذلك يبقى السؤال: هل كان البنا شهيداً أم قتيلاً للسياسة، شأنه شأن ساسة كبار آخرين فى عصره؟ فى الساعة الثامنة من مساء السبت 12 فبراير 1949، كان البنا يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين، يرافقه رئيس الجمعية لوداعه، دقّ جرس الهاتف داخل الجمعية، فعاد رئيسها ليجيب، فسمع إطلاق الرصاص، فخرج ليرى البنا أصيب بطلقات تحت إبطه وهو يعدو خلف السيارة التى ركبها القاتل، ويأخذ رقمها وهو رقم 9979، والذى عرف فيما بعد أنها السيارة الرسمية للأميرالاى محمود عبدالمجيد، الذى كان يشغل منصب المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية! ثمة سياسى شهير آخر يقترن اسمه بمقتل البنا مثلما يقترن اسم البنا بمقتله، وهو محمود فهمى النقراشى باشا (26 أبريل 1888 - 28 ديسمبر 1948) وهو رئيس وزراء مصرى راحل، ومن قادة ثورة 1919، وترأس الوزارة مرتين فى عصر الملك فاروق (الذى حكم البلاد بين 1936 و1952). والحكاية لكى تكتمل يجب أن نقول إن النقراشى أعلن فى 8 ديسمبر 1948 – وكان آنذاك رئيساً لوزراء مصر - قراره بحل جماعة الإخوان، ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها، وفى اليوم التالى بدأت حملة الاعتقالات والمصادرات.. وفى خلال عشرين يوماً، كان النقراشى يلقى مصرعه بالرصاص فى وضح النهار، وتقبض الشرطة على قاتله الذى يعترف بأنه عضو فى (النظام الخاص) بجماعة الإخوان، رغم تبرؤ البنا وقيادات الجماعة وقتها من اغتيال النقراشى ودمه. إذن، فرواية الإخوان لاغتيال حسن البنا لا تأتى على ذكر الفرضية الأساسية وهى أن تصفيته إنما جاءت رداً على تصفية النقراشى قبله بأقل من شهرين، وأن الإخوان اغتالوا النقراشى لأنه قرر حل جماعتهم ومصادرتها، أى أن المسألة برمتها سلسلة من الثارات المتبادلة بين الإخوان والسلطة، وليست استشهادا بالمعنى الحرفى للكلمة، ونحن هنا لا نبرئ النقراشى من أخطاء سياسية كبيرة اقترفها فى نهاية مشواره السياسى إرضاء للملك فاروق، كما أن الشهادة من عند الله لا يكتبها بشر ولا ينكرها إنسان. علمه عند ربى، إذا كان إمام الإخوان البنا شهيداً، فالنقراشى رئيس الوزراء شهيد.. تم اغتيالهما فى ظروف واحدة تقريباً ضمن سلسلة تصفيات جسدية بين النظام الخاص للجماعة والحرس الحديدى للملك، البنا ضحية الملك، النقراشى ضحية الإخوان، كلاهما اغتيل، الشهادة واحدة. الإخوان يراجعون برنامجهم ترضية للعامِلِينَ عَلَيْهَا (على الجماعة) وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ (من قبل الجماعة)، لماذا لا يراجعون ماضيهم ويفتحون مقابر النظام الخاص، وملفات أميرهم الدموى عبدالرحمن السندى؟! ليس البنا وحده هو الذى جرت تصفيته جسدياً، من قبله اغتيل رئيسا وزراء «أحمد ماهر والنقراشى». الإخوان يعضون على شهادة إمامهم، ولا تثريب.. اسم البنا لا ينطق إلا مسبوقاً بالإمامة، مشفوعاً بالشهادة، الجماعة الإسلامية اعترفت للسادات بالشهادة بعد عقدين، السادات شهيد، هل تعترف جماعة الإخوان بشهادة النقراشى بعد ستة عقود، النقراشى شهيد.